![]() |
| |||||||
![]() في زمن قل فيه الحرص على قصد بيت الله الحرام، في زمن اشتغل الناس بالسفر إلى البلدان المجاورة ولم يشتغلوا بفريضة الله التي افترضها على عباده ، في زمن كثر فيه المتكاسلون عن هذه الفريضة بدعوى الزحام . إليهم أقدم لهم هذه القصة المؤثرة التي أسأل الله أن تكون عبرة لأمثال هؤلاء . ![]() وقفات إلى البيت العتيق أحمد بن عبد الرحمن الصويان الشيخ الحاج عثمان دابو رحمه الله من جمهورية جامبيا في أقصى الغرب الإفريقي ، تجاوز الثمانين من عمره ، زرته قبل موته في منزله المتواضع في قريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول ، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق ، ماشياً على قدميه مع أربعة من صحبه من بانجول إلى مكة قاطعين قارة إفريقيا من غربها إلى شرقها ، لم يركبوا فيها إلا فترات يسيرة متقطعة على بعض الدواب ، إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة . رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوِّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة وعبرة ، استمرت الرحلة أكثر من سنتين ، ينزلون أحياناً في بعض المدن للتكسب والراحة والتزود لنفقات الرحلة ، ثم يواصلون المسير . سألته : أليس حج البيت الحرام فُرض على المستطيع ، وأنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين ؟ ! قال : نعم ، ولكننا تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم ، فقال أحدنا : نحن الآن شباب أقوياء أصحاء ، فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرم ، خاصة أننا نظن أن الأيام لن تزيدنا إلا ضعفاً ، فلماذا التأخير ؟ ! فهيَّجَنا واستحثنا على السفر مستعينين بالله تعالى . خرج الخمسة من دُورهم ، وليس معهم إلا قوت لا يكفيهم أكثر من أسبوع واحد فقط ، والدافع الرئيس لذلك هو تحقيق أمر الله تعالى لهم بحج بيته العتيق، وأصابهم في طريقهم من المشقة والضيق والكرب ما الله به عليم ؛ فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون ؟ ! وكم من ليلة طاردتهم السباع ، وفارقهم لذيذ المنام ؟ ! وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان ؛ فقُطَّاع الطرق يعرضون للمسافرين في كل واد ؟ ! رُبّ ليلٍ بكيت منه فلمَّا ... صرتُ في غيره بكيت عليه قال الشيخ عثمان : لُدغت ذات ليلة في أثناء السفر ، فأصابتني حمَّى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني ، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي : وإني لأرعى النجم حتى كأنني على كل نجم في السماء رقيب فكان أصحابي يذهبون للعمل ، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار ، فكان الشيطان يوسوس في صدري : أَمَا كان الأَوْلى أن تبقى في أرضك ؟ ! لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق ؟ ! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط ؟ ! فثقلت نفسي وكدت أضعف ، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي ، فالتفتُّ عنه ومسحت دمعة غلبتني ، فكأنه أحس ما بي ! فقال : قم فتوضأ وصلِّ ، ولن تجد إلا خيراً بإذن الله [ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ] (البقرة : 45-46 ) . فانشرح صدري ، وأذهب الله عني الحزن ، ولله الحمد . كان الشوق للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدوهم في كل أحوالهم ، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره ، مات ثلاثة منهم في الطريق ، كان آخرهم في عرض البحر ، واللطيف في أمره أن وصيته لصاحبيه قال لهما فيها : إذا وصلتما إلى المسجد الحرام ، فأخبرا الله تعالى شوقي للقائه ، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم . قال الشيخ عثمان : لما مات صاحبنا الثالث نزلني همٌّ شديد وغمٌّ عظيم ، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي ؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوة ، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام ، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحرِّ من الجمر . إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتطامن، فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً وخشيت أن أموت قبل أصل إلى مكة المكرمة ، فأوصيت صاحبي أنني إذا مت أن يكفنني في إحرامي ، ويقربني قدر طاقته إلى مكة ، لعل الله أن يضاعف لي الأجر ، ويتقبلني في الصالحين . فيوشك أن يحول الموت بيني وبين جوار بيتك والطواف فكم من سائل لك ربِّ رغباً ورهباً بين منتعل وحافي أتاك الراغبون إليك شعثاً يسوقون المُقلَّدة الصَّوافي [1] مكثنا في جدة أياماً ، ثم واصلنا طريقنا إلى مكة ، كانت أنفاسي تتسارع والبِشْر يملأ وجهي ، والشوق يهزني ويشدني ، إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام . وسكت الشيخ قليلاً .. وأخذ يكفكف عبراته ، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمَّا رأى الكعبة المشرَّفة ! ثم قال : لما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً ، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال ، فما أشرفه من بيت وأعظمه من مكان ! ثم تذكرت أصحابي الذين لم يتيسر لهم الوصول إلى المسجد الحرام ، فحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليَّ ، ثم سألته سبحانه أن يكتب خطواتهم وألا يحرمهم الأجر ، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر . خرجت من بيت الشيخ وأنا أردد قول الله تعالى : [ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ] ( آل عمران : 133 ) . إقبال جاد على الطاعة ، إقبال لا يعرض عليه التكاسل أو التسويف ، إقبال تهون فيه الآلام والأكدار ، إقبال تتساقط تحته كافة العراقيل والعقبات .. إقبال بهمة صادقة وعزيمة عالية تنبع من قلب متعلق بمحبة الله والامتثال لأمره . خرجت وأنا أردد قول الله تعالى : [ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ] ( الحج : 27 ) . ثم تأملت في حال كثير من المسلمين في هذا العصر ممن تحققت فيهم الشروط الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام ، ومع ذلك يُسوِّفون ويتباطؤون عن الحج .. ! ألا فليتذكر أولئك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض ، وتضلّ الضالة ، وتعرض الحاجة » [2] . ![]() ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ (1) من شعر ابن شبرمة ، انظر : أخبار مكة للفاكهي (2/283) . (2) أخرجه : أحمد (3/332) رقم (1833 ، 1843) ، و ابن ماجه ، في كتاب المناسك رقم (2883) ، وحسنه الألباني في الإرواء رقم (990) ، و الأرناؤوط في تخريجه لمسند الإمام أحمد . (( مجلة البيان ـ العدد [160] صــ 115 ذو الحجة 1421 ـ مارس 2001 ))
|
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
![]() | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
قصص مؤثرة جدا ومبكيه | ابو أسيل | حكايات من الوجد | 10 | 08-02-2010 08:43 PM |
محاضرة سعد العتيق | ابو نـــmkـــواف | أخبار الرويضة | 7 | 13-11-2009 01:45 PM |
قصيدة مؤثرة | محمد | نشيد الروح | 5 | 10-08-2009 01:32 AM |
قصيدة مؤثرة جدا | سيوف | نشيد الروح | 13 | 08-06-2007 06:54 PM |
صورة مؤثرة | لؤلؤة المستقبل | روحانيات | 9 | 15-12-2006 12:35 AM |
![]() | ![]() |