| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
| ||||||||
الخطاب المتعدد في جدارية محمود درويش...... مازن دويكات الخطاب المتعدد في جدارية محمود درويش منذ مجموعته الشعرية "لماذا تركت الحصان وحيداً" بدأ الشاعر محمود درويش، بتكريس حالة فنية لعالمة الشعري، تعتمد على الوحدة الموضوعية والتي لها في كل قصيدة خطاً شفافاً يمنح وضوحه كلما أوغل القارئ في دخول هذا العالم، لينسج في النهاية شبكة من الخيوط المتداخلة لتكوّن هذه الوحدة. بمعنى أن هناك ارتباطاً وتداخلاً بين القصائد لا يكتمل وضوحه إلاّ من خلال التعامل مع هذه القصائد تعاملاً تراكمياً، وهذا الاتجاه، يمثل جزئية بسيطة من فسيفساء الحداثة التي تعتمد على كم هائل من الأجزاء في تشكيلها الكلي، إن هذه المجموعة تكتسب وحدتها الموضوعية من خلال عودة الشاعر إلى ينابيع الطفولة ودفء الأسرة والمكان الذي تعامل معه تعاملاً أحادياً حنينياً بعيداً عن الخطاب الوطني الجمعي، ولا عيب في هذه الذاتية عند شاعر كدرويش، أفنى أكثر من أربعين عاماً وهو قابضٌ على جمرة الشعر التي منحت دفأها للوطني والقومي والأممي في آن، وفي مجموعته الشعرية اللاحقة "سرير الغريبة"، في الاعتقاد أن هناك التحاماً وتواصلاً مع المجموعة السابقة، وذلك من خلال التدرج العمري المعبر عنه في تجربة الشاعر الإنسانية. الطفولة في المجموعة السابقة ، والشباب الذي يلهث شبقاً وحنيناً وراء المرأة في المجموعة اللاحقة. فالمرأة في "سرير الغريبة" شكّلت الوحدة الموضوعية من خلال شبكة الخيوط التي نسجها الشاعر على الصعيد الإنساني كعلاقات حميمة وعلى الصعيد الإبداعي كتشكيل عالم من الكلمات يضج بالشهوات والرغبات الوحشية. ولا شك أن بذرة الوحدة الموضوعية موجودة عند الشاعر في مجموعته "أحد عشر كوكباً" ولكنها وحدة غير مكتملة، أو أن اكتمالها تشظّى ليشكل انحرافاً عن هذه الوحدة. إن المشهد الأندلسي في هذه المجموعة، يبدو للعيان بكل مآسيه التاريخية الضاجّة، إنها من الحيوية والانفلات، بحيث لا تحوج أحداً لمتابعتها، إنها تقفز من نافذة التاريخ وتأتي إليه، تعفيه من تاريخيتها، وتلزمه بآنيتها، ليكون الحاضر بمآسيه التراجيدية، إن التدرج الزمني في التجربة الدرويشية مازال قائماً، منذ نقطة الانطلاق في " أحد عشر كوكباً" مروراً في " لماذا تركت الحصان وحيداً"، وصولاً إلى "سرير الغريبة" وانتهاءً في "الجدارية". وجاءت هذه المجاميع الشعرية، لتؤكد على مقدرة الشاعر وتنفي في نفس الوقت مقولة تداولها البعض، وهي أن الشاعر صنعته قضيته، ورفعته جراح شعبه، وكأن ناظم حكمت وبابلونيرودا ولوركا وأرغون ليس لهم قضايا وطنية يدافعون عنها، كما أن ليس لشعوبهم جراح! إن الذات في هذه المجاميع خرجت من "أناها" وتشظت والتحمت بكل ما هو جمعي سواء كان وطنياً أو قومياً أو أممياً، إنها ذات مجردة، ترفض واقعها، تتمرد عليه وتحاكمه، وتجرده من مقدسه، وترفض التماثل بين نصها وما يتم تصويره من هذا الواقع، فهي في النهاية تفكك عالمها، وهذا البعد الحداثي عند محمود درويش ميزه عن مجايليه وسابقيه من الشعراء العرب، الذين اعتمدوا حداثة ليس لها علاقة في الواقع، وهذا ما نراه عند شعراء قصيدة النثر بكل ما أوتيت من اغتراب وانسلاخ عن ينابيع القصيدة العربية، والملفت للنظر، أن الحداثة الشعرية العربية لا يُتحدث عنها إلاّ من خلال قصيدة النثر، وهي كما هو معروف طارئة على التجربة الشعرية العربية، وبمقدرة منظمة استطاع الشاعر محمود درويش أن ينفي هذا التصور ويخلخل بنيته من خلال جداريته المدهشة التي حققت كل شروط الحداثة الشعرية مع المحافظة على قوانين الوزن العروضي والإيقاع التطريبي، والإشكالية عند الآخرين تتمثل في عدم القدرة على التمكن من كل هذه الخيوط دفعة واحدة، مما أوقع التجربة في شرك الإلغاء الجبري لبعض المكونات المهمة. وعلى الرغم من أن الأذن العربية سماعيه أكثر من كون العين قرائية، إلاّ أننا لا نعتبر التطريب الشعري ركن أساس.ولكن وجوده مع المكونات الضرورية الأخرى يمنح القصيدة جمالية إيقاعية حفرت لها مكاناً في الذائقة العربية منذ العصر الجاهلي. الخطاب المتعدد في الجدارية خطاب الذات – أنا من يحدث نفسه هذا هو اسمك/ قالت امرأة وغابت في الممر اللولبي…(1) ليس مهمة هذا المفتتح أن يؤسس حالة تواصلية مع الأطراف إلا أن الغياب الجسدي للمرأة، هو تغييب لصوت الشاعر عن المرئي والمسموع، وانتشار له في الغيبوبة البيضاء. بمعنى أن الخطاب معزول عن الخارج متشظي في الداخل، فليس في هذا الخطاب إشارة لأحد، "فالأنا" وحدها هي المسيطرة، تستعين بأدواتها المتعددة، فهي من الكثرة بحيث يصبح تعدادها حالة مرهقة، ولأن الخطاب أحادي من طرف واحد، دون أن يكون هناك من يقوم بعملية الرد، يلـجأ المحاور لإيجاد صيغ تحوّل في كينونته، غايتها كسر الإيقاع البطيء في صيرورة هذا الخطاب بغية التجدد والحيوية والحركة، وذلك بالارتكاز على صيغة الخطاب المتكرر في الجدارية والمفضي إلى "سأصير يوماً ما أريد"، والإرادة هنا ذاتيه معزولة عن الآخر وأدواته، ولها ما تشاء من آلية التحول والتبدل حسب حاجات الذات لتحقيق توازنها وانسجامها. إن تحولات الذات إلى فكرة لا سيف يحملها أو إلى طائر ينسل من عدمه أو إلى شاعر الماء رهن بصيرته وأخيراً إلى كرمة يعتصرها الصيف.كل هذه التحولات النصية تعبير عن وحدة الذات لشحنها بالصمود أمام مواجهة البياض المطلق الذي يحيط بها من كل جانب. وهـي في النهايـة تفضي إلـى خطاب الذات، حيث لا أحد هناك يخاطب إلاّها. بعد هذه التحولات الأربعة. (فكرة، طائر، شاعر، كرمة)الموسومة بالتجديد والحيوية، تتحفز الذات للنهوض من بياضها. لكن صوت المرأة القادم من الخارج، يعود من جديد. لتكرر ما قالته في مفتتح الجدارية. هذا هو اسمك/ قالت امرأة وغابت في ممر بياضها.(2) بعد ذلك تعود الأمور مع "أنا" الشاعر كما بدأت، عودة إلى غيبوبة البياض. ويكون الخطاب في هذه المرة مع الموت مباشرة. خطاب الموت – حياة لم تكتمل، موت لم يكتمل يطرح درويش في الجدارية، مسألة أزلية بمنظور وجودي، تتلخص في علاقة "أنوية" الشاعر وتماهيها مع كل الضمائر اللغوية الأخرى، لتخرج مدججة بكل أدواتها وتتخندق أمام الموت الذي تحول من لفظ دلالي فقدي إلى جسد يسير على قدمين، متعملق أمام الفريسة ومتقزم أما الذات المقاومة. إن الكثير من الشعراء العرب تحدثوا عن الموت، ولكن الجديد في هذا الحديث، أن الشاعر أنسن الموت، وجعله يتحرك بمحض إرادته على مدى خمس عشرة صفحة في الجدارية. ومن العدل أن نشير إلى أن الشاعر أدونيس تعامل مع الموت مثل هذا التعامل في "مفرد بصيغة الجمع" إجلس أيها الموت في مكان آخر ولنتبادل وجهينا أضع نبضي نسغاً لأبجديتي اسويك الجلد اسميك النظر طعم الأشياء…(3) لكن تعامل درويش أكثر تطوراً وحيوية من تعامل أدونيس وإن حسبت الأسبقية لأدونيس. وعلى الرغم من أن الخطاب أحادي الاتجاه، فلم يشعر المتلقي بهذه الأحادية، لأن العمق الذي فيه يشغل القارئ، ولا يجعله ينتظر رداً من الموت، فلا وطأة هنا ولا ملل، بل متابعة بكل الحواس المشدودة المنهكة، وهذه جزئية أخرى من الحداثة تتمثل في رصد العلاقة الموتورة بين القارئ والنص وعمق المواجهة بينهما، فكأن مهمة الشاعر إغاضة المتلقي بدلاً من خلق حالة تعاون بينه وبين النص. فالموت في النصوص الأخرى لا يمثل إلاّ حالة فَقْدْ وتنتهي المسألة ولكنها هنا حالة متشابكة تبدأ فيها المسألة! إن محمود درويش في جداريته، تناول الموت والحياة من خلال الذات فقط، بمعزل عن الأخرين، ليؤكد أن الحياة لم تكتمل بعد. كذلك الموت، لأن الاكتمال في منظور الشاعر لا يتم إلاّ من خلال حديث صاحب التجربة، وهذا هو المستحيل بعينيه، لأن الحياة لا تكتمل إلاّ بالموت، والموت لا يسمح بالحديث عن اكتمال الحياة، فهي حالة تبادلية بينهما، والنتيجة، ليس هناك حياة مكتملة ولا هناك موت مكتمل عند الذات "وأناها" المتعددة. والسؤال: بأي "أنا" شاهد الشاعر هذه الرؤى المتعددة من شرفة الموت المطلة على سديمه الأبيض؟ هناك تشابك وتداخل، وتنحي وتباعد بين هذه المجاميع المشدودة إلى نقطة المركز في الذات. فكأن هذا التعدد الرؤيوي يليق "بأنا" الشاعر وتعددها، مريض يحقن بالمخدر وبعد أن يتلاشى في البياض، يتفكك ويتحلل إلى مجاميع: سجين يضرب بالعصا. ولد يشاهد أباه مصاباً بضربة شمس حجازية، منفي يرى شباباً مغاربة يلعبون الكرة. شاعر يرى ريني شار وهيدغر والمعري . ميت ينتحب عليه رفاقه ويخيطون له كفنناً من خيوط الذهب. وتأتى الرؤيا الأخيرة لتؤكد أنه مازال حياً أو أنه ولد من جديد في حضن بلاده التي تعانقه بأيد صباحية. إن الإفلات من الغيبوبة البيضاء هو إعداد حقيقي لحوارات أخرى مركزية وثانوية، حوارات محكومة للإدراك المزخرف بألوان الحياة بعيداً عن بياض الغيبوبة. وبعد، هل انتهى خطاب الموت؟ من ناحية التصاعد الدرامي، هو كذلك لأن الذروة في هذا الخطاب بدأت تتسفح حتى تساوت مع أرضية نقطة الانطلاق، ولكن أجواء الموت مازالت مخيـمة من ناحية التدرج النصي، ليتحول من خطاب الموت إلى الحديث عنه من خلال خطاب الذات الذي لم ينقطع كلياً على مدار الجدارية، وكأنه يمثل همزة الوصل بين بقية الخطابات. خطاب أنكيدو _ ظلمتك حين قاومت فيك الوحش يفترض في التعامل الأسطوري أن يُكسب النص الإبداعي أبعاداً جمالية، خاصة إذا استطاع المبدع تطويع الأسطورة لخدمة هذا النص، وهناك دواع فنية تبرر مثل هذا التعامل خاصة في النصوص الكبيرة وذلك حماية لها من الترهل والزوائد، وعلى الرغم من أنها قد تحدث انكساراً في النص لأنها تمثل جزئية مقحمة، إلا أن القدرة والإجادة في خلق تناسق وتناغم مع الأجزاء الأخرى، قد يجعل هذا الانكسار ضرورة تخلص النص من تراتب الإيقاع السردي. هناك نصوص معرفية ضخمة حشدها الشاعر محمود درويش لإخراج جداريته بكل هذا البهاء الرعوي، الشعائري المتوحش في آن. وجاء استدعاء جلجامش وانكيدو من ألواح الأسطورة لبحث جدلية الموت والحياة، والخلود والفناء. خاصة وأن ملحمة جلجامش ترتكز في بعدها الأسطوري على هذه المسائل كما أن الجدارية ترتكز في بعدها على هذا الطرح، وهي تمتاز عن النصوص المشابهة لها في الرؤى الموتية، كرسالة الغفران للمعري والكوميديا الإلهية لدانتي، إنها خرجت من صوت شاعر رأى السماء في متناول الأيدي، وهو محمول فوق جناح حمامة بيضاء تحلق في سديم أبيض: وكأنني مت قبل الآن.. أعرف هذه الرؤيا وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف. ربما ما زالت حياً في مكان ما..(4) إن الكثير من رؤى الشاعر في الجدارية، منفصلة عن الجاذبية الأرضية، من هنا اكتسبت أفضليتها، بمعنى أن الحديث عن الموت في النصوص الأخرى قد يكون تخيلياً أو سماعياً، أما في الجدارية فهو مزيج من المعاش والمتخيل. … ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا فنحن القادرون على التذكر قادرون على التحرر، سائرون على خطى جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن…(5) إن الانفلات من شباك الموت البيضاء، يدفع للبحث عن خندق للاتقاء والمواجهة، مواجهة تتخذ أشكالاً متعددة، سلاح دفاعها مرئي يشهر، فهي مقاومة خارجية، أما الاتقاء فهو يتشكل في أطواراً مختلفة. وأدوات دفاعه معنوية، ضابطة ومحركة للذات، وهي مقاومة داخلية، وقد يكون استدعاء جلجامش واستنهاضه من ألواح أسطورته هو الخندق بشقيه، الواقعي والمعنوي. ولكن بداية يفترض ضبط العلاقة بين جلجامش الأسطورة، وجلجامش الجدارية، هل هي حالة حلول أم تماهٍ أم قناع؟ فالحلول، "يستدعي غياباً كلياً للشخصية الجاذبة فتأتي الشخصية الأخرى لتكون بديلها بكل شروط التعامل الداخلي والخارجي، أما التماهي فهو انجذاب تبعي بشروط التواجد الثنائي المرهون لعلاقة التابع والمتبوع بانسياق داخلي، أما القناع فهو شكلاني خارجي، لا تأثير فيه للشخصية الجاذبة، والعلاقة هنا وقتية تنتهي بالخلع، وليس بالضرورة التماثل والانسجام لأن الهيمنة هنا للشخصية المقنعة، وبالرجوع النصي للأسطورة والجدارية، نلاحظ أن هناك تماثلاً شكلياً وخلافاً جوهرياً بين جلجامش الأسطورة وجلجامش الجدارية مما يؤكد أن العلاقة بينهما قناعية ليس إلا، فالخلود عند الأول جسدي بفعل عشبه وهمية لم يستطع حمايتها من الأفعى التي سطت عليها واحتفظت بها لنفسها، والخلود عند الثاني هو التناسل في الوجود … يوجد نبات مثل الشوك ينبت في المياه وشوكة يخز يديك كما يفعل الورد فإذا ما حصلت عليه يداك وجدت الحياة… (6) … وسيكون أسمه: "يعود الشيخ إلى صباه كالشباب" لأحملنه معي إلى "أوروك" المحصنة وأشرك معي "الناس" ليأكلوا منه (7) … … وانتظره ولداً سيحمل عنك روحك فالخلود هو التناسل في الوجود(8) بعد هذا الخلاف الجوهري في تحديد ماهية الخلود، ما عاد هناك ضرورة للقناع فعلى جلجامش أن يعود إلى ألواح أسطورته في "أوروك" وتبقى "أنا الشاعر قابضة على جمرات تحولاتها لتشكل خطابها الجديد. " نام انكيدر ولم ينهض. جناحي نام ملتفاً بحفنة ريشه الطيني" " هات الدمع انكيدو، ليبكي الميت فينا الحي. ما أنا؟ من ينام الآن أنكيدو؟ أنا أم أنت؟" (9) وكما ضبطت العلاقة بين جلجامش المستحضر من أسطورته وجلجامش الجدارية، يفترض أن تضبط العلاقة مع مثيليهما انكيدو الأسطورة وانكيدو الجدارية. من الملاحظ أن هناك مغايرة بينهما، فلا وجود لحياة انكيدو الجدارية، وهذا شيء مبرر. لأن مسألة الموت هي المرتكز في بنية هذا الخطاب. كما أن الجدارية لا تطمح للتوافق النصي مع الأسطورة. فهي تأخذ ما تراه مناسباً لخدمة خطابها، بمعنى أن حياة انكيدو تخص الأسطورة وحدها، مثلما موته يخص الجدارية وحدها، وفي الرجوع إلى النصين، ندرك أن موته في الأسطورة أنهى علاقته بلجامش، بدليل أن جلجامش ذهب بعد موت انكيدو مباشرة ليبحث عن عشبة الخلود تاركا صديقه في عزلة الموت. أما في الجدارية فقد بدأت العلاقة بين جلجامش وانكيدو بعد الموت مباشرة دون أن نلحظ لها وجوداً في حياة انكيدو "نام انكيدو ولم ينهض" وهذا يعني أن جلجامش الجدارية ظل وفياً حد التماهي والحلول. " من ينام الآن انكيدو؟ أنا أم أنت؟".. بمعنى أن خطاب انكيدو هنا هو خطاب الموت.. وللتمييز بين خطاب الموت السابق وهذا الخطاب، نلحظ أن الموت الأول المخاطب يجنح للتعميم، أما الموت الثاني المخاطب فهو يجنح للتخصيص. وعلى الرغم من هيمنة الموت المطلقة في الخطابين إلا أن المعني هنا هي "أنا" الشاعر وأدواتها وهي تفضي في النهاية إلى كل حي. خطاب السجان القديم الجديد_ وأوصاني بأن أحمي المدينة من نشيدك في هذا الخطاب تحرر كامل من الموت وكوابيسه البيضاء، مع أن ذيوله ما زالت تتبع "الأنا" بعد هبوطها فوق أرضها، ليس من شفاء مطلق من سطوته، ولا راحة من كوابيسه التي تحاول أن تتخندق في هذا الخطاب. "فالأنا" لم تتلمس خطاها بعد على الرغم من تحررها من السماوي وضوء ثريات المكان السكري. مثلما سار المسيح على البحيرة، سرت في رؤياي، لكنِّي نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلو، ولا أبشر بالقيامة. لم أغير غير إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحاً (10) إن التحول في الخطاب يمر عبر مراحل، من الأسطوري إلى الواقعي عبر تصور ديني، فكأن كل ما مرت به "الأنا" من غياب عن الأرض في سرير البياض السماوي لم يتعد كونه رؤى، والعلو هنا معادل للصلب، والحركة في هذا الصلب معادلة لسيران المسيح على ماء البحيرة، فكأن هذا التحرك وتداخله يمثل امتحاناً لقدرات القلب والذي من أجله حدث هذا العروج إن مادة الامتحان هي تغير في الإيقاع المضاد، والنتيجة أن "الأنا" سمعت صوت قلبها واضحاً، وهذا يعني أن الشفاء والانتقال من السماوي إلى الأرضي وتحول في الخطاب، من خطاب الذات إلى خطاب الموت إلى خطاب الأسطورة وصولاً إلى الخطاب الواقعي الأرضي. للملحميين النسور ولي أنا: طوق الحمامة، نجمة مهجورة فوق السطوح، وشارع متعرج يفضي إلى ميناء عكا – ليس أكثر أو أقل (11) للنسور "بقوتها" وللحمامة "برقتها" دلالة واحدة، وإن اختلفت فيهما طبائع الطير، وهذا الاختلاف الشكلي كاف لخلق اختلاف مركزي بين الملحميين بكل غيبيتهم المؤسطرة وبين "الأنا" بكل واقعيتها المعاشة، مما يزيد هذه الخلافية أن "الأنا" لم تأخذ من الحمامة كليتها، كما أخذ الملحميين من النسور، أخذت دلالتها بكل ما لهذه الدلالة من أبعاد عاطفية ليس لها في علو الطير وطيرانه أي علاقة، كما أن هناك تحولاً للحمامة "وطوقها" إلى نجمة مهجورة فوق السطوح، مع التأكيد أن هناك مشاركاً في تملك "الأنا"، وهو الشارع المتعرج الذي يفضي إلى ميناء عكا، إن تحديد هوية المكان، وما لهذا من علاقة شعائرية مع "الأنا" هو تحول، ليس في الخطاب فقط، لكنه تحول كلي في "الأنا" المريضة التي لا تفكر إلا في ذاتها عبر تحولات عدة، إلى "أنا" مزقت شرنقة وحدتها وتداخلت في لحمة المكان "الوطن". إن الحالة المرضية تبرر "للأنا" انفلاتها وانتماءها الكلي لذاتها، لكنها بعد الخروج من هذا المأزق لا تستطيع إلا أن تتماسك وتنتشر بكليتها في هذا المكان، بغية مواجهة الآخر الذي ينازعها في ملكيته. "قلت للسجان عند الشاطئ الغربي: - هل أنت ابن سجّاني القديم؟ - نعم! - فأين أبوك؟ قال: أبي توفي من سنين. أصيب بالإحباط من سأم الحراسة. ثم أورثني مهمته ومهنته، وأوصاني بأن أحمي المدينة من نشيدك… (12) كان بإمكان الشاعر أن يضعنا أمام صورة مقابلة "الأنا" مع السجان دون أي تفاصيل عنه، لأن الدلالة وحدها تكفي للإحاطة بالمشهد من كل جوانبه. ولكن التركيز على كون السجان الحالي هو ابن سجان قديم، جاء ليؤكد مسألة جوهرية طرقتها الجدارية من خلال العلاقة الضدية بين جلجامش الأسطورة وجلجامش الجدارية حول مفهوم كل منهما للخلود، فالأنا منذ خطابها الأسطوري لأنكيدو لم تتغير، فهي ما زالت تؤكد على أن: "الخلود هو التناسل في الوجود" حتى في حالة السجان كما أن هناك تأكيداً أخر في هذه المسألة، وهو أن السجان باق مادام هناك حياة "في أقدم المدن الجميلة، أجمل المدن القديمة" خطاب الاسم _ اثنان نحن في القيامة واحد لا نستطيع فصل هذا الخطاب عن خطاب الذات، لكن علاقته "بالأنا" تنبئ بأن هناك انفصالاً وتنحياً، مما يوجب التعامل معهما كل على حدى. يااسمي: سوف تكبر حين أكبرُ سوف تحملني وأحملك الغريب أخ الغريب (13) وهنا تبدو الثنائية واضحة بينهما، "سوف تكبر حين أكبر، تحملني وأحملك، الغريب أخ الغريب". وبمتابعة النص، نلحظ أن "الأنا" تحولت من المركزية الجاذبه إلى الندية الموازية إلى التبعية الملحقة، وكأن الاسم مرجعية لهذه "الأنا" يا اسمي: أين نحن الآن؟ قل: مالآن، ما الغدُ؟ ما الزمانُ، وما المكانُ! ما القديم، ما الجديدُ؟ سنكون يوماً ما نريد (14) إن التحول في خطاب الذات من "سأكون يوماً ما أريدُ" ذات البعد الفردي إلى "سنكون يوماً ما نريدُ" ذات البعد الجمعي، دليل أخر على هيمنة الاسم تجاه "الأنا". ويؤكد هذا الواقع صوت المرأة الخارجي في بداية الجدارية وتكراره مرة أخرى في صفحة 15 "هذا هو اسمك" وكأنه لم يعد من الذات إلا اسمها ولا شيء يدل عليها إلا هذا الاسم، هذا في الحالة المرضية. ولكن بعد النـزول عن الصليب الأبيض (المرض) وسماع دقات القلب بوضوح (الشفاء)، تشهد العلاقة بين "الأنا" واسمها تحولاً آخر، يتجسد بعودة الأمور إلى طبيعتها، حيث يعود الاسم تابعاً للذات، وأن أخطأت في لفظه نتيجة التحولات في العلاقة بفعل المرض. جدار البيت لي.. واسمي، وإن أخطأت لفظ اسمي (15) فالتأكيد على ملكية الاسم، يدل على أن "الأنا" عادت إلى توازنها واستعدادها للمبادرة والفعل، مبتدئة بالتحرر من غموضها المفتوح ومنحازة لوضوحها المغلق والمجسد بالاسم وحروفه الأبجدية، ولأنه يشير إلى دلالة مشاعية سطحية، كان لا بد من تفكيكه: ميمُ/ المتيمُ والميتم والمتمم ما مضى حاءَ/ الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان ميمَ/ المغامرَ والمعدُ المستعد لموته الموعود منفياً، مريض المشتهى واوٌ/ الوداع، الوردة الوسطى ولاءُ للولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين دالٌ/ الدليل، الدربُ، دمعةُ دارة درست، ودوري يدللني ويدميني/ وهذا الاسم لي…(16) إن هذا التناسل المدهش في الدلالة، لم يكن له أن يكون دون هذا التفكيك المؤسس لعالم يعج بالتضاد المؤتلف والتماثل المختلف، على أمل أن يكون هناك ما هو وسطي بين عشبة جلجامش الأسطورة و صرخة جلجامش الجدارية متأسين ومؤتنسين أن المتنبي ما زال بيننا دون صرخة وكذلك سيبقى الشاعر الشاعر ما دام هناك أبجدية تتفكك في اسمه. إشارة كل أرقام الهوامش هي نصوص من الجدارية باستثناء رقم (3) من مفرد بصيغة الجمع لأدونيس و أرقام (6 و 7 و 8 ) فهي نصوص من ملحمة جلجاميش
|
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
إليك يا محمود درويش | الأخطل الأخير | نشيد الروح | 6 | 04-09-2008 11:26 PM |
:: رحيل محمود درويش! :: | الكايد | احتواء ما لا يحتوى | 9 | 11-08-2008 12:51 AM |
قصص قصيرة ....... مازن دويكات | مازن دويكات | حكايات من الوجد | 12 | 07-06-2008 05:20 AM |
محمود درويش.. شاعر العالم المبدع لعام 2007 | محمد | حكايات من الوجد | 9 | 15-10-2007 09:31 PM |
قصص قصيرة ....... مازن دويكات | مازن دويكات | ركنك الهادي | 0 | 11-08-2007 03:55 PM |