|
| ||||||||
هدهدة هدهدة هدهدة ، أي فعللة . لا أحد يجرؤ على فتح فمه ، ليقول للشيخ يسري البساطي ثلث الثلاثة كم . هو يضع العمامة على رأسه ، ويقلوظها ، ولا يرضى أن يخلعها حتى لا يبين عاري الرأس . في دروس النحو يتفنن في شرح القواعد اللغوية الصعبة ، مخترقا هالة السكون التي يكون عليها الفصل . يتحرك من اليمين إلى اليسار أمام سبورة سوداء من الحائط إلى الحائط . تقع الأبرة على البلاط فترن . كأي جمل أصيل ، نخ من المرض فليس له كبير ، وأخرج منديله فمسح رذاذا ملطخا بدم أحمر انخلع له فؤاده. هدهدة على وزن فعللة ، وبيده الميزان الصرفي ، وفي قلبه ميزان العدل لا يختل بمقدار خردلة ، وأسبوع مبارك حين يقسم على زوجاته الثلاث أيامه الظليلة . فمن حق كل واحدة يومان ، ثم يستريح في اليوم السابع أي الجمعة . معه يحضر لفة فسيخ ، وربطة الأرغفة اللدنة ، وأعواد البصل الأخضر والكرات . يشمر أكمام القفطان الواسعة ، وباسم الله الرحمن الرحيم يبدأ في ازدراد أول لقمة . من صباح ربنا يأخذ طريقه إلى المعهد الأزهري ويعود بعد العصر لبيته ، فتغرف له صاحبة النصيب كل ما تشتهي الأنفس من خيره . ساعتان لا أكثر للقيلولة ، بعدها ينفض بدنه ، ويتوضأ للمغرب ، وسرعان ما ينطلق بحقيبته ، ودفاتره المباركة ليعقد قران أولاد الحلال على ربات الصون والعفاف من البنات صاحبات الخدور . يعود بالحقيبة السوداء ملأى بالشيكولاتة والملبس ، فتفرز الزوجات ما بها في علب مخصوصة ، وعند اكتمال الوزن المتفق عليه يذهب للحلواني ، وبثلثي الثمن يبيع ولا من شاف ولا من دري . السمن البلدي مع عرق التحويجة والحبة السوداء لشد الظهر والإبانة عن الفحولة التي تتسرب على شكل أصوات مبحوحة ، لاهثة ، متقطعة من تحت عقب الباب عندما ينفرد بزوجة من زوجاته الثلاث ، القانعات ، الراضيات . سأله صديقه المعلم يعقوب أستاذ الكيمياء عن سبب اكتفائه بالثلاث ، ولماذا لا يجعلهن أربعة ؟ لم يهتز له جفن حين سمع السؤال ، وكأنه قد رتب إجابته عليه منذ سنوات . على قد الحجرات جاء النصيب ، والصالة لا تستر عدوا ولا حبيبا. يسألونك عن الأولاد قل هم قرة أعين . هذا ما يعرفه الشيخ البساطي ، لكن العين بصيرة واليد قصيرة . ليس له في مسألة الإنجاب . هو لا يعرف سببا لجفاف الأرحام ، وانقباضها حيث لا تطرح أولادا ولا بناتٍ من لحمه ودمه. حين جاء قانون الخلع كان ممن انخلع قلوبهم خشية أن يؤثر ذلك على دخله المضمون فهو لا يعرف بعد سوى الزواج والطلاق وهي الطرق المعروفة والمألوفة في علاقة الرجال بالنساء من قديم الأزل ، وقبل أن تدس الحكومة أنفها فيما لا يعنيها. راقب ودقق واختلس السمع واسترق البصر على القضايا المرفوعة في المحاكم ووجد أن الحال معدن ، وأن عمله لن يتأثر كثيرا بهذه البدع المذمومة. هدهدة على وزن فعللة ، وكثيرا ما تأخذه سنة من النوم ، فيتراءى له وجه ولد يشبهه تماما بملابس بيضاء هفهافة ، يقبل عليه ، فيداعبه ، ويركب على ظهره المقوس . يسير به في الصالة المستطيلة ، فيضحك الولد ويثير فرحا لا ينتهي . مرة يخرج من حجرة فريدة ، ومرة من حجرة محاسن يخرج ، وثالثة من حجرة وجنات . كلما قلد صوت الخروف هزّ الطفل ساقيه الرفيعتين ، وانبطح على ظهر أبيه ثم مد يديه وشد أذنيه ، وصاح به أن : حا.. حا.. فيضطرب لحظة فقد أصبحت الركوبة حميري ، وهذا ما يقلقه ، فيشخط في الولد قليل التربية ، ويصحو من نومه ضجرا. يجد نفسه وحيدا إلا من جسد إحدى حريمه داخل ثوبها الكستور شتاء واللينوه صيفا، ليعرف أن في ذلك حكمة لو يعلم أولو الألباب. حين فكر في سلوى الممرضة بمستشفى الأعصر كان مقصده حلالا ، فهي المطلقة ، الولود ، خضراء البطن تصلح له تماما. وقد صمم أن يتزوجها على سنة الله ورسوله . يمنحها اليوم السابع غير أن عاصفة الصحراء الجرداء هبت على حياته فأحالتها مرارا ، وكدرت أيامه التي اتسمت دائما بالهدوء . بالورقة والقلم عرف أنه الخاسر لكنه لم يستسلم للضغوط التي مورست عليه ، وبكل ما يملك من قوة وبأس عقد عليها ، ودخل القفص الذهبي للمرة الرابعة بقدميه ، وجعل سكنه عشة بحري في الطابق الثاني بمصيف رأس البر حيث الفراندة تطل على جامع الرحمة . البطن انتفخت ، والزوجة تتوحم ، وهو يأتي لها بالمشمش والخوخ والبرقوق ماركة هوليود بل بعض ثمار الأناناس من مهربي بورسعيد وصبيانهم . يوم الجمعة لها وحدها ، ولها الدلال ، وقد بلغ به الجنون أن كان يريحها فيطبخ هو خوفا على النطفة من نار البوتجاز . هدهدة ، أي فعللة ، فيها رقة وإيقاع جميل يقترن بالأطفال إذ يحتضنهم الأهل ، ويلاعبونهم . الأب يناغي ابنه ، ويسمع حروفه الأولى تتكسر على شفتيه ، ولثغ الكلمات التي تتشكل ببراءة ورفعة: ب..ا..ب..ا.. يقبل عليها فيتحسس البطن ، ويضع الأذن ليستمع إلى حركات موجية لا تكاد تحس. يغالب النسوة قهرهن ، ويقابلنه بود مصطنع في انتظار القادم : ولدا كان أم بنتا . هو حريص ألا يهتز ميزان عدله ، فلكل واحدة يومان كما جرى العرف ، ولها يوم واحد فهي المغلوبة على أمرها نظريا لكن بصورة عملية أمكنه أن يستخرج من اليوم يومين حين يمد حبل الدلال بوصل الليل بقطعة ثمينة من الليل. وهو لا يخفي بهجته مع اقتراب موعد الوضع. في نهاية الشهر التاسع فاجأها المخاض وهي تهبط من سطح البيت بعد نشر الجبة والقفطان والعمامة . جاءت القابلة ، ومعها مساعدتها ، وبعد الصرخات المعتادة وأكواب القرفة جاء الولد. كان ميتا ، وتميل بشرته للزرقة . حمله في هم عظيم ، وراح يهدهده ، باكيا ، مولولا ، وما لبثت القابلة أن اختطفته من بين يديه خوفا من أن يجن . لفته بقطعة قماش بيضاء وذهبت به إلى المدافن . بقى الشيخ في بيت الوالدة أسبوعا بأكمله ، حتى عاد إلى رشده ، ومضى سيرته الأولى . دون أن يغمطها حقها من حيث النفقة والمواساة والزيارة الواجبة للأم المنكوبة ، والتي شاركته عن حق وجعه الذي لا ينسى . مضى ينتظر أمر ربنا ، وإنا معه لمنتظرون. 3/2/2008
|
| |||||||||||
رد: هدهدة هدهدة .. حلم الأبوة المفقودة الذي يشغل آلاف الآباء أمثال الشيخ يسري البساطي فرغم قناعة الزوجات الثلاث إلا أنه لم يقنع أستاذي / سمير الفيل الشيخ يسري شخصية جديدة من شخصيات قصصك تبعتها بهدوء وتأمل فوجدتها قريبة جدا منا بكل تفاصيلها وما زلتُ أتحرى خباياها وأسرارها ومعها في انتظار الهدهدة . رائعة بحق استمتعت بها حتى آخر سطر . دمتَ بكل الخير والإبداع تحيتي وتقديري
|
| ||||||||||
رد: هدهدة |
| |||||||||||
رد: هدهدة |
| |||||||||||
رد: هدهدة |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|