| ||||||||
اللكلوك اللكلوك فى ظهيرة يوم قائظ دخل الرجل إلى المحل فى غاية القرف ، ومن خلفه زوجته الشابة ، تخفى دموعها ، وتمسح نحيبها على عتبة المكان قبل الدخول ، وفوق ذراعها طفل جميل ، شبه نائم . جلس الرجل معطيا ظهره للفترينة ، بحيث صار مواجها للباب الجانبى المعلقة عليه الشباشب حمراء اللون ، زفر زفرتينن ، وحاول أن يبدو كاظما لغيظ ليس بوسع أمثاله من الرجال ذى الدم الحار أن يكظموه . أما هى المرأة ، بنت الناس ، فحسبها أنها تمضغ حزنها ، وتبكى فى صمت ، لايعلو صوتها بمقدار همسة ، ولا تبدى امتعاضا لهذا الرجل الذى يجر شكلها ، ويشعرها فى كل وقت أنه أفضل منها مئات المرات . دخلت وراءه ، أسندت الطفل على ركبتيها ، جالت بناظريها فى المحل ، تأكدت من عدم وجود رجال ، أخرجت ثديها ، ألقمته الطفل ، ومالبث صوتها أن تناهى إلىّ فى الركن الذى انكمشت فيه ريثما أكتشف غرضهم فى الدخول ، وهو زجرنى بنظرة وضع فيها كل قرفه ، وسألنى أن أحرك علبة التروس للمظلة خارج المحل ، كى أحجب زوجته عن المارة ، وقد نفذت طلبه على غير إرادة الحاج خليل الذى شدد علىّ أكثر من مرة بضرورة رفع المظلة فور تحرك الشمس للفترينة الأمامية . فى عتمة ركنى الصغير بالمحل تناهى إلى سمعى صوت الآذان من المسجد القريب ، وجدتها المرأة فرصة : " ربنا أعلم بحالى ، يحاسب المفترى والظالم " . دارت عيناه فى محجريهما ، و أشار بيده ، أن تكتم نفسها وتصمت ، لكنها أخرجت حلمة ثديها من فم الطفل ، ودفعت الصغير نحوه : " خد . مش ده ابنك برضه " . بكى الطفل ، وفوجىء الرجل به بين ذراعيه ، فحمله وراح يهدهده ، والصغير يواصل البكاء فى حرقة . سألتنى المرأة ، وهى لاتخفى دموعها المنحدرة على وجنتيها : " كباية ميه ،وحياة والدك " . رمقت المرأة الشابة بتفهم ، وأردت أن أخفف عنها : " أجيب لك سكر وليمون أحسن؟ " . هزت رأسها مستحسنة: "بسرعة وحياتك " . كان الولد جلال صبى القهوجى يمر مصادفة بالصوانى من أمام باب المحل طلبت منه الليمون ، وضحكت فى وجهها : " ثانية واحدة " . بدا الرجل فى مأزق حقيقى لأن الطفل يبكى ، والمرأة تعدل طوق فستانها ، وتقفل الأزرار ، وهى غير مستعدة لاستلام الطفل ثانية ، وكنت أعرف أن الحاج لو دخل ورأى المنظر سيتسلمنى بالسخرية ، والتعنيف ، فملت على المرأة الأقرب إلىّ : " طلباتك يا ست ؟ " . تطلعت إلى زوجها ، وتحسس جيبه ، كان يحاول استيعاب المشكلة ، حاول الابتسام بصعوبة طلع صوته : " ثانية واحدة ، إحنا مش هنطير " . بهدوء وضع الطفل على ركبتيها ، فلم تتحرك ، وبادرها بكلام مختلف : " حقك على ، وممكن كمان أبوس راسك " . زامت كالنمرة ، وصرخت فيه :" اصل اللى بتعمله ده مايرضيش حد . واحدة للغسيل والتنضيف والطبخ ، والتانية للملاعبة والمناهدة " . تأملته محرجا ، ورجانى بنظرة معاتبة أن أترك المحل للحظة ، أو تصورت ذلك : " وحياة ابننا ده مالى علاقة بواحدة تانية " . هاجمته بعنف ، وكنتُ قد أخرجت مقعدا ، وجلست بجوار الفترينة : " والبنت أم شعر أصفر ؟" . وصل صوته مستعطفا : " دى زبونة بتصلح عربيتها عندى ". استفسرت فى حدة : " وجاية لوحدها ليه .. ماترد ؟ " . ترقبت الموقف ، وأردت أن أعرف كيف سيخرج من الحفرة : " أصلها مطلقة !" . قلت فى عقلى : " يخرب بيتك . جيت تكحلها عميتها ". هبشته بأظافرها : " أنت لاتعرف سوى الأرامل والمطلقات. مش كده ؟" ثم هبدته فى صدره ، والولد تدحرج على الأرض ، فسارعتُ بحمله ، وكان يصرخ من شدة الألم ، درت به على الرصيف ،رد بخشونة : " يعنى أعمل كشف هيئة على كل زبون أو زبونة ؟" دخلت بالصغير، وأنا أرقب الموقف من جديد . كان الرجل فى موقف لا يحسد عليه ، أضاف : " ولو كانت أم شعر اصفر زعلتك بلاش منها " . لانت المرأة قليلا ، وزحفت الشمس على المساحة العارية من المحل :" بيتك أهم من اللف والدوران يا أسطى محمود !" . أخيرا نطقت باسمه، وهو أراد أن يستوعب الموقف مرة واحدة ، فمسح بيده على شعرها ، وكان على هيئة ذيل حصان معقوص ، ربت على كتفيها : " سامحينى ، أنا غلطت " . دخل جلال بالصينية ، ووضعها على المكتب ، بجوار جريدة " الأهرام " المطوية على صفحة الحوادث ، عادت إلى طبيعتها ،إذ قالت بصوت رقيق :" خذ إشرب الليمون ، وسيب لى شوية " . مد يده بالكوب ، مسح دموعها التى تركت خيطا من الكحل أسفل جفنيها : " إنت الى طلبتيه ، إشربى و روقى دمك " . لو دخل الحاج خليل فى هذه اللحظة سيوبخنى بعد خروجهما :" سيادتك عاملها شئون اجتماعية ؟!". كأننى أنهى الموقف ، وضعت الطفل بين ذراعى أمه ، وهى قبلته فى خده ، وهدهدته . قال الأسطى لطفله : " إنجغه "، فضحك الطفل. وجدتها فرصة لاتتكرر كى أحسم الموقف : " شرفتم المحل ، أهلا بيكم " . لكن المرأة الشابة تطلعت إلى ّ بدون نحيب أو دموع هذه المرة،وبلهجة آمرة وحانية :" هات للولد حاجة تدفى رجله ؟" . قلت لها ضاحكا : " مفيش إلا اللكلوك " . وفعلا ، جئت بعدة " لكاليك " مختلفة الألوان والأشكال ، مددت يدى للأم ، فنظرت نحو زوجها باستعطاف ودلال : "أيه رأيك.. هو اللى يختار ؟ " أشارت بكفها المنقوش بالحنة نحوى ، وكانت تقاوم فرحتها بعودة الصفاء مع زوجها الذى لقنته درسا لن ينساه بسهولة . هز الميكانيكى محمود رأسه ، بحركة تؤكد لها أنه مغلوب على أمره : " طبعا .. طبعا " . تأملت يديه وعليهما أثر الشحم، بنبرة هادئة " مفيش مانع على الإطلاق " . تأملت اللكاليك ، وكأننى أراها لأول مرة ، سألت نفسى : " لو أنت رضيع صغير ،ماذا كنت تختار ؟ " . مددت يدى بلكلوك يجمع بين الأحمر والأصفر ، قدمته للأم ، لم تمهلنى لحظة إذ وضعت الحذاء القماش فى القدم الصغيرة الرقيقة . هز الطفل قدمه مستثقلا إياها ، ورفس الهواء بقوة ، فمال الرجل مكررا : " إنجغه " . دفع الثمن ، وحاسب على الليمون ثم طلب منى أن أزوره فى دكانه ليقدم لى حاجة حلوة ، وقبل أن أحصل منه على العنوان ، مال على زوجته ، وقبلها فوق خدها قبلة امتنان ، وخرجا لايلويان على شىء . استراحت نفسى فقد ذهبوا قبل أن يطب الحاج ، ويصرخ فى وجهى ، لكن فى كل مرة لاتسلم الجرة ، لأنه وصل ، ورأى كوب الليمون، وقد صنع دائرة على المكتب وقف عليها الذباب . ............... ............... ............... ............ * من مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان " صندل أحمر " .
|
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|