هب أننا سألنا بضعة أشخاص عن التصور الذي يحمله كل منهم عن الشخص المبدع , وخصائص العمل الإبداعي , أو هب أنك سألت كل واحد منهم منفصلاً عما يجعله يؤمن بعبقرية شكسبير أو بيكاسو , أو أنشتاين , ستجد من المؤكد تفاوتاً ضخماً بين هؤلاء الأفراد في الأحكام فبعضهم يرى في الأبداع مظهراً من مظاهر خصوبة التفكير , ومعياراً لفيض لا ينضب من الأعمال . فعقل المبدع -في نظر هؤلاء- أشبه بالعجلة الحربية التي لا تكف عن إشعال الشرر . فلم يعرف شكسبير بهاملت , بل كتب أيضاً "عطيل" و "الملك لير" و"ماكبث" و"الملك هنري الرابع" وكتب في الكوميديا بنفس القدرة التي كتب بها في المأساة . ومسرحياته تربو على العشرات , وقصائده تتجاوز المئات , وبداخل كلٌ منها فيض غزير من الصور . وهكذا أيضاً بيكاسو لم تبن شهرته على لوحة واحدة في اتجاه واحد , بل إن لوحاته تزيد على المئات , وكل لوحة منها تحفل بعديد من المنبهات والألوان . وفي مجال العلم لم تبن شهرة علماء مثل نيوتن أو أنيشتاين على نظرية واحدة بل إن لكل عالم مجالات علمية أخرى قد برز فيها بتفوق . صحيح أن نيوتن مثلاً ارتبط اسمه بنظرية الجاذبية , لكن نظرياته في الضوء والبصريات لا تخفى على أحد من المتخصصين . وهكذا يمتاز كل من استحق أن نطلق عليه لفظة عبقري.
وأصحاب هذا الرأي لايعنيهم الاهتمام بعمل بعينه من حيث نتائج هذا العمل وقيمته في دنيا الإبداع الفني أو العلمي . إذ تقتصر أحكامهم على كمية الأعمال المنتجة بغض النظر عن كيفيتها . بينما نجد طائفة أخرى لا تهتم بهذا الكم , بمقدار ما تهتم بتنوع الأعمال الإبداعية , وقدرة المبدع على تشكيل حالاته الذهنية والعقلية بطرق مختلفة . فالعبقري عند هؤلاء يملك فكراً أشبه بحبات الخرز التي تنتظم في أشكال متنوعة لا تعد ولا تحصى . وعن مثل هذا الأمر يتحدث نقاد الأدب في تقييمهم لكثير من الأعمال الأدبية أو المسرحية : هل استطاع صاحبها أن يتجاوز نفسه ؟ وأن يتخطى الأعمال التي سبق له أن قدمها من قبل ؟ أم أنه ظل يكرر نفسه مما يطبع أعماله بالجمود وضيق الأفق ؟ وبهذا لا يكون مقياس الإبداع بالنسبة لشكسبير مثلاً هو عشرات المسرحيات المأساوية والكوميدية التي نسجها , ولا مئات القصائد الشعرية التي زخرت بها أعماله . ولكن المقياس يكون في نظر هؤلاء هو مدى التنوع الذي صاغ به شكسبير شخصيات مسرحياته , وقصائده , والموضوعات الجديدة التي يحملها كل عمل من أعماله , فأي عمل جديد لشكسبير تبدو فيه -بالرغم من الطابع العام لشخصيته وأسلوبه في الكتابة-محاولة للتحرر من منظور العمل السابق وموضوعه , فهو لا يكرر فكرة , ولا يستخدم صوره الشعرية بصورة جامدة متكررة . فالمأساة في هاملت يختلف مضمونها وتختلف معالجتها عن المأساة في لير أو عطيل , وهكذا أيضاً تبدو عبقرية ديستويفسكي أو ديكنز , وليوناردو دافنشي : قدرة على تخطي الذات , والتحرر من النظرة الجامدة , والتفتح على عالم متنوع وخصيب بالرؤى والصور والأشكال .
ولكننا قد نجد أيضاً من يقول بأن مقياس العمل الإبداعي يكمن في وزن العمل وقيمته لا بالنسبة لأعمال المفكر الواحد , ولكن بالنسبة لوزنه من بين الأعمال الأخرى للعديد من المفكرين . فهل استطاع هذا العمل أن يقدم رؤيا جديدة ؟ وهل استطاع أن يقدم تأليفاً جديداً بين أشياء متناقضة بحيث يلقي على بعض الظواهر أضواء لم تكن ملقاة عليها من قبل ؟ وصاحب هذا الرأي قد لا يعنيه مقدار ما أنتج المفكر , ولا مقدار التنوع في أعماله فحسب , بل إن ما يعنيه أساساً هو وزن العمل , وقيمته في دنيا الأعمال الأخرى من جدته وأصالته , وقدرته على الامتداد بحدود الخبرة إلى آفاق جديدة . وإذا ما قيست الشخصية المبدعة بهذا المقياس فإن الحكم عليها يصبح شديداً وصارماً . إذ لا تتجاوز الأعمال الإبداعية على مر التاريخ الفكري البشري -بهذا المقياس- العشرات . وقد لايزيد عدد الأعمال الإبداعية للمفكر الواحد على واحد أو اثنين على الأكثر هو الذي اكتسب من خلاله الشهرة والتقدير . فمن بين كل مؤلفات "داروين" يبرز " أصل الأنواع" ومن كارل ماركس " رأس المال" ومن "ديستويفسكي " " الأخوة كارامازوف" ومن "بافلوف" "الأفعال المنعكسة الشرطية" .. وهكذا , وبهذا قد يصبح العمل الإبداعي نادراً ندرة وجود مثل هذه الأعمال الموسومة .
وقد نجد أن البعض الآخر يتجه في تصوره للشخص المبدع شخصاً ذا حساسية مرهفة , وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات والإحساس بالمشكلات , فقد شاهد الملايين قبل نيوتن ثماراً تسقط من أشجارها , غير أن مشهد التفاحة وهي تسقط على الأرض كان يحفل بالنسبة له بكثير من المشكلات التي انتهت بعد ذلك إلى نظرية الجاذبية الأرضية . وفي المجال الاقتصادي الاجتماعي لم تأخذ مشكلة التفاوت الضخم بين الطبقات وتوزيع الثروة أكثر من صورتها الساذجة , أما بالنسبة لكارل ماركس فقد كانت مصدراً لإثارة كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتحليلها .
وقد يثير البعض تصوراً آخر للعبقرية . فالمبدع في الفن أو العلم هو ذلك الشخص القادر على إدراك الروابط الخفية بين الأشياء . فعبقرية نيوتن ظهرت في قدرته على الربط بين سقوط التفاحة والجاذبية . وفرويد في قدرته على الربط بين هفوات اللسان , وزلات القلم , والأحلام بعالم اللاشعور والرغبات المكبوتة , وبافلوف في قدرته على الربط بين إفراز اللعاب والمنبهات الشرطية . والشاعر والأديب تتخلق مواهبهم الأصلية من خلال قدرتهم جميعاً على الربط بين العناصر الحسية والخبرة الماضية , في شكل جديد , بتأثير من القدرات العقلية والحياة العاطفية , ورؤيته الإيديولوجية لواقعه . إن الحذاء في لوحة فان جوخ المشهورة ليس حذاء عادياً , والمسيح في لوحات جيوتو ليس هو المسيح الحقيقي , وحفار القبور في قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب لا يمثل صورة تسجيلية لشخصية حفار القبور الحقيقية .
إنها جميعاً أشخاص وصور وأشكال , وخبرات أعيد تشكيلها من جديد , من خلال ارتباطها بالحياة العاطفية للفنان ورؤيته لواقعه , أو لجانب من هذا الواقع .
مقال أعجبني أحببت ان تتطلعوا عليه
مع التحية
توقيع : ج ــســــد *, .. أن تختار ( عزلتك )
لا يعـني .. أن تكـف عن الحضور في قلب العالـم ،
إنها في أبــسط أشكالها ..
تعنـي أن تحضر بـِ " اختيارك "،
وأن تُـباشر .. حـضورك .. ضمن حدودك .. الخاصـة
بحيث لاَ يسـع أحداً أن يسـرقك من ( ذآتـك ) على غفـلة،
أو .. يشكّـل وجهك وفق ما يــريد ..
أو .. يــؤذيك أو .. يـلوي .. عنق بوصلتك .. ,* |