| LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
| |||||||||||
قصة: العِشْق في البلادِ الغريبة العِشْق في البلادِ الغَريبَة قصة: إبراهيم سعد الدين في البلاد الغريبة أحسُّ بالأشياء لها طعم الثمارِ الفجَّة. قديماً، كنتُ كلما حَللْتُ بواحدةٍ من تلك المُدن أقضي اللَّيلَ مُتجوِّلا في دروبها الغَريبة، أفتّشُ في وجوهِ النِّسَاء. قال لي ـ مَرّةً ـ عجوزٌ لم يَعُدْ يحضرني منه سوى نُحول صوته وسُعاله الخشن المتقطع: هذه المدن كالنِّساءْ تَعَافُها حين تطؤها. لكنّي ـ وقد تعبتُ لطول التِّرْحال ـ صِرْتُ أقضي ليلتي الأولى بالفندق. في صالة الفندق الليلية ـ حيثُ الكُلُّ أغْرابٌ والكُلُّ على سفر ـ لا أحَدَ يَهشُّ لِلُقْيَاكَ ولا أحَدَ يأسى لفراقك. في هذه السُّوق الطيّبة ـ التي لا بيع فيها ولا شراء ومِنْ ثَمَّ لا حُبّ ولا كراهية ـ يشهدني اللّيْلُ لائذاً بِرُكْنٍ بعيد؛ مُمْتَلئَ الصَّدْرِ برائحة الشراب والشواء وعطور النساء من شتى الأجناس. متى رأيت هذه الوجه..؟!. أحضر النادل قنينة الشراب وصحاف الشواء وانصرف. تأملت انحناءة ظهره وهو يَمْرقُ بين الموائد، وتساءلت: هذا العجوز كَمْ أمضى من السِّنين يَذْرَعُ المكان جيئةً وذهاباً، يصطنع الابتسامَ في وجوه العابرين من الغرباء والمطاريدِ وشُذّاذِ الآفاق..؟!. متى رأيتُ هذا الوجه..؟! يقولون: الخمر تجلو الروح وتشْحذُ العقلَ وتُذْكي جَذْوَةَ القلب. لكنها تملؤني بالتعاسة، وحين أهِمُّ بالرجوع.. أحسُّ داخلي كغرفةٍ قديمة أُغْلِقَتْ لزمنٍ، حتى فسَدَ هواؤها وتَغيَّرَتْ روائحُ الأشياء فيها. متى رأيت هذا الوجه..؟! ومن قائل تلك العبارة: هذه ليلة الشعر والمأساة..؟!. والوجهُ لامرأةٍ في نحو الأربعين؛ خالٍ من المَلاحَةِ والقُبْحِ معاً، لكنه ـ بأُلْفة تقاطيعه، وسُمْرَتِه الرَّائقةِ المُحَبّبَة ـ أشبه ما يكون بخارطةٍ لوطنٍ بعيد؛ لِطولِ ما تَغرَّبْتُ عنه لمْ أعُدْ واثقاً إنْ كانَ قد مَسَّه التَّغَيُّر أم أنا الذي تَغَيَّرْت، بَيْني وبَيْنه غلالةٌ من دُخانِ التَّبْغِ المَحْرُوقِ وضبابِ الأنفاسِ الحَرّى، لكنها تَشفُّ عن عَيْنَيْن نَجْلاوَيْن لهما لوْنُ العَسَلِ وإيقاعٌ يَنْفذُ للقلبِ تَـوّاً فيمْنَحُكَ إحساساً بأن ثَمَّة ذراعيْن أليفتيْن تنفرجان الآن وصَدْراً يتأهَّبُ ليحْتَويك. أعْرِفُ هاتيْن العيْنَيْن، والبَسْمَةُ النَّائمَةُ عند زاويةِ الفَمِ أعرفها؛ خَبَرْتُهَا من زمنٍ عِشْتُهُ لكنَّ ذِكْرَه لا يَحْضرني الآن، وهاهي تَتَّسِعُ، تَصيرُ دهْشةً وتِرْحَاباً وشَوْقا. ـ أنتَ ..؟! مَنْ قائلُ تلك العبارة: شَارِبُ الغِبْطةِ المُعْتَدلْ لاَ يَسْتحقُّ اليُنْبُوعْ؟!. كُنْتِ.. وكانَ ثمة شيءٌ يدعوني أن أتمَهّل، فلمَّا هَمَمْتُ.. نَهَضْتِ، كان القميصُ مُجَعَّداً من الخلفِ وثمَّة عُروقٌ زرقاء تنتشرُ ما بين الفَخْذيْن وربْلتي السَّاقيْن. كُنْتِ.. وكان صَدْري مُشبَّعَاً ـ مَا يزالُ ـ برائحةِ العَرقِ والأصْباغِ، وشاقني أن أرى لون عينيك، لكنك كُنْتِ قد انْسَلَلْتِ من فرجة البابِ وانْسَرَبْتِ في جَوْفِ الليل. ـ تَعْرِفُني الآنْ..؟! أعْرفكَ أيُّها الوجه، لا كَمَا تُفْصحُ عن نَفْسِك ولكنْ كما يَتقَلَّبُ الجنينُ في الرَّحِمِِ يُثيرُ فيه نوازعَ الألمِ ودِفْءَ الرَّغْبةِ وعُذوبَةَ الشَّوْق. أعْرِفُكَ، مع أنَّكَ مَاكِرٌ: تتخفَّى في وجوهِ كل النِّسَاءْ. وَمُخَاتلٌ: أدَّخِرُ لكَ أطايبَ الحَديثِ؛ أحْفَظُهَا بالقلبِ وأنتظرُ فلا تَجيءْ. وخَؤون: تُفجؤني ـ لحظة الحلم ـ فَتُسْلمني لعَالمِ التَّخْليطِ وتُودِعُني للرَّحيلْ. زمَانٌ طويلٌ وخُطىً لا تُحْصَى؛ أنْفَقْتُها لاهثاً أرْكُضُ لا نُشْدَاناً لغايةٍٍ وإنما هَرَباً من أثقالٍ كُنْتُ كُلَّما أحْسَسْتُ بها في داخلي أُضَاعِفُ من سُرْعَةِ العدْو..، وهكذا صِرْنا قريبين الآنَ وصِرْتُ ـ وأنْتَ في دِعَتِكَ المُطْمَئِنَّةِ هذه ـ أعْرِفُكْ. كانتْ قد أسْندَتْ خَدَّهَا على ظاهِرِ كَفَّيْها وأخْلَدَتْ للنَّومْ. وكُنْتُ بِقُرْبِهَا أتنَفَّسُ رَائحَةَ الجسد حين يصير ـ حَسْبَمَا خَلَقَهُ الله ـ رَاحَةً وسَكينةً وكِنَّا. مُقَدَّسٌ هذا الجَسَدْ.. مُقَدَّسٌ ومُفْتَرِسْ. كَانَتْ عَيْناهَا مُغْمَضَتَيْن والبَسْمَةُ المَاثلةُ عند زاويةِ الفَمِ ما تزالُ، وكان النادلُ قد حَضَرْ. رَمَقني بعيْنين مكدودتين وانحنى حتى وطَّنَ سَاعدَيْه خَلْف جسدها، وحملها على ذراعيه وسار. أجْفَلَتْ عَيناها قليلاً، وتوَارَت البَسْمَةُ عن فمها الصَّغيرْ. كُنْتُ مُتْعَباً وثَمّة خَدَر ثقيل بساقيَّ، لكنّى تَبِعْته حتى صِرْنا على رأسِ دَرَجٍ تَرَدَّدَ قليلاً قبل أن يَشْرَعَ في الهبوط عليه. كان يتقدمُ بتثاقُلٍ وتُؤدة، وكنتُ خَلْفه كَمَنْ يهبطُ فوق مُنْحَدَرٍ يَمْلكُ باختيارهِ أن يتوقَّفَ لو أرادْ لكنَّ انحدارَ الطَّريقِ يُغريه بمواصلة السَّيْر. كان الضوءُ يَشِحُّ رُويْداً وثمَّة رائحة ثقيلة، وعاودني ـ كما سمعْتُه أوَّلَ مَرَّة ـ صَوْتُ القطارْ. كان الصّوْتُ المُتواترُ يَبتعد.. وكُلَّما أوغل في البعد.. زاد إيقاعُهُ نَبْضاً في ذاكرتي. |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|