الموضوع: اللكلوك
عرض مشاركة واحدة
#1 (permalink)  
قديم 19-03-2008, 04:16 PM
سمير الفيل
.::V I P::.
.::قاص وروائي مصري::.
سمير الفيل غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 898
 تاريخ التسجيل : 16-06-2007
 فترة الأقامة : 6405 يوم
 أخر زيارة : 04-03-2009 (06:12 PM)
 العمر : 73
 المشاركات : 54 [ + ]
 التقييم : 323
 معدل التقييم : سمير الفيل مبدع سمير الفيل مبدع سمير الفيل مبدع سمير الفيل مبدع
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي اللكلوك





اللكلوك


فى ظهيرة يوم قائظ دخل الرجل إلى المحل فى غاية القرف ، ومن خلفه زوجته الشابة ، تخفى دموعها ، وتمسح نحيبها على عتبة المكان قبل الدخول ، وفوق ذراعها طفل جميل ، شبه نائم .
جلس الرجل معطيا ظهره للفترينة ، بحيث صار مواجها للباب الجانبى المعلقة عليه الشباشب حمراء اللون ، زفر زفرتينن ، وحاول أن يبدو كاظما لغيظ ليس بوسع أمثاله من الرجال ذى الدم الحار أن يكظموه .
أما هى المرأة ، بنت الناس ، فحسبها أنها تمضغ حزنها ، وتبكى فى صمت ، لايعلو صوتها بمقدار همسة ، ولا تبدى امتعاضا لهذا الرجل الذى يجر شكلها ، ويشعرها فى كل وقت أنه أفضل منها مئات المرات .
دخلت وراءه ، أسندت الطفل على ركبتيها ، جالت بناظريها فى المحل ، تأكدت من عدم وجود رجال ، أخرجت ثديها ، ألقمته الطفل ، ومالبث صوتها أن تناهى إلىّ فى الركن الذى انكمشت فيه ريثما أكتشف غرضهم فى الدخول ، وهو زجرنى بنظرة وضع فيها كل قرفه ، وسألنى أن أحرك علبة التروس للمظلة خارج المحل ، كى أحجب زوجته عن المارة ، وقد نفذت طلبه على غير إرادة الحاج خليل الذى شدد علىّ أكثر من مرة بضرورة رفع المظلة فور تحرك الشمس للفترينة الأمامية .
فى عتمة ركنى الصغير بالمحل تناهى إلى سمعى صوت الآذان من المسجد القريب ، وجدتها المرأة فرصة : " ربنا أعلم بحالى ، يحاسب المفترى والظالم " .
دارت عيناه فى محجريهما ، و أشار بيده ، أن تكتم نفسها وتصمت ، لكنها أخرجت حلمة ثديها من فم الطفل ، ودفعت الصغير نحوه : " خد . مش ده ابنك برضه " .
بكى الطفل ، وفوجىء الرجل به بين ذراعيه ، فحمله وراح يهدهده ، والصغير يواصل البكاء فى حرقة .
سألتنى المرأة ، وهى لاتخفى دموعها المنحدرة على وجنتيها : " كباية ميه ،وحياة والدك " .
رمقت المرأة الشابة بتفهم ، وأردت أن أخفف عنها : " أجيب لك سكر وليمون أحسن؟ " .
هزت رأسها مستحسنة: "بسرعة وحياتك " .
كان الولد جلال صبى القهوجى يمر مصادفة بالصوانى من أمام باب المحل طلبت منه الليمون ، وضحكت فى وجهها : " ثانية واحدة " .
بدا الرجل فى مأزق حقيقى لأن الطفل يبكى ، والمرأة تعدل طوق فستانها ، وتقفل الأزرار ، وهى غير مستعدة لاستلام الطفل ثانية ، وكنت أعرف أن الحاج لو دخل ورأى المنظر سيتسلمنى بالسخرية ، والتعنيف ، فملت على المرأة الأقرب إلىّ : " طلباتك يا ست ؟ " .
تطلعت إلى زوجها ، وتحسس جيبه ، كان يحاول استيعاب المشكلة ، حاول الابتسام بصعوبة طلع صوته : " ثانية واحدة ، إحنا مش هنطير " .
بهدوء وضع الطفل على ركبتيها ، فلم تتحرك ، وبادرها بكلام مختلف : " حقك على ، وممكن كمان أبوس راسك " .
زامت كالنمرة ، وصرخت فيه :" اصل اللى بتعمله ده مايرضيش حد . واحدة للغسيل والتنضيف والطبخ ، والتانية للملاعبة والمناهدة " .
تأملته محرجا ، ورجانى بنظرة معاتبة أن أترك المحل للحظة ، أو تصورت ذلك : " وحياة ابننا ده مالى علاقة بواحدة تانية " .
هاجمته بعنف ، وكنتُ قد أخرجت مقعدا ، وجلست بجوار الفترينة : " والبنت أم شعر أصفر ؟" .
وصل صوته مستعطفا : " دى زبونة بتصلح عربيتها عندى ".
استفسرت فى حدة : " وجاية لوحدها ليه .. ماترد ؟ " .
ترقبت الموقف ، وأردت أن أعرف كيف سيخرج من الحفرة : " أصلها مطلقة !" .
قلت فى عقلى : " يخرب بيتك . جيت تكحلها عميتها ".
هبشته بأظافرها : " أنت لاتعرف سوى الأرامل والمطلقات. مش كده ؟"
ثم هبدته فى صدره ، والولد تدحرج على الأرض ، فسارعتُ بحمله ، وكان يصرخ من شدة الألم ، درت به على الرصيف ،رد بخشونة : " يعنى أعمل كشف هيئة على كل زبون أو زبونة ؟"
دخلت بالصغير، وأنا أرقب الموقف من جديد . كان الرجل فى موقف لا يحسد عليه ، أضاف : " ولو كانت أم شعر اصفر زعلتك بلاش منها " .
لانت المرأة قليلا ، وزحفت الشمس على المساحة العارية من المحل :" بيتك أهم من اللف والدوران يا أسطى محمود !" .
أخيرا نطقت باسمه، وهو أراد أن يستوعب الموقف مرة واحدة ، فمسح بيده على شعرها ، وكان على هيئة ذيل حصان معقوص ، ربت على كتفيها : " سامحينى ، أنا غلطت " .
دخل جلال بالصينية ، ووضعها على المكتب ، بجوار جريدة " الأهرام " المطوية على صفحة الحوادث ، عادت إلى طبيعتها ،إذ قالت بصوت رقيق :" خذ إشرب الليمون ، وسيب لى شوية " .
مد يده بالكوب ، مسح دموعها التى تركت خيطا من الكحل أسفل جفنيها : " إنت الى طلبتيه ، إشربى و روقى دمك " .
لو دخل الحاج خليل فى هذه اللحظة سيوبخنى بعد خروجهما :" سيادتك عاملها شئون اجتماعية ؟!".
كأننى أنهى الموقف ، وضعت الطفل بين ذراعى أمه ، وهى قبلته فى خده ، وهدهدته . قال الأسطى لطفله : " إنجغه "، فضحك الطفل. وجدتها فرصة لاتتكرر كى أحسم الموقف : " شرفتم المحل ، أهلا بيكم " .
لكن المرأة الشابة تطلعت إلى ّ بدون نحيب أو دموع هذه المرة،وبلهجة آمرة وحانية :" هات للولد حاجة تدفى رجله ؟" .
قلت لها ضاحكا : " مفيش إلا اللكلوك " .
وفعلا ، جئت بعدة " لكاليك " مختلفة الألوان والأشكال ، مددت يدى للأم ، فنظرت نحو زوجها باستعطاف ودلال : "أيه رأيك.. هو اللى يختار ؟ "
أشارت بكفها المنقوش بالحنة نحوى ، وكانت تقاوم فرحتها بعودة الصفاء مع زوجها الذى لقنته درسا لن ينساه بسهولة .
هز الميكانيكى محمود رأسه ، بحركة تؤكد لها أنه مغلوب على أمره : " طبعا .. طبعا " .
تأملت يديه وعليهما أثر الشحم، بنبرة هادئة " مفيش مانع على الإطلاق " .
تأملت اللكاليك ، وكأننى أراها لأول مرة ، سألت نفسى : " لو أنت رضيع صغير ،ماذا كنت تختار ؟ " .
مددت يدى بلكلوك يجمع بين الأحمر والأصفر ، قدمته للأم ، لم تمهلنى لحظة إذ وضعت الحذاء القماش فى القدم الصغيرة الرقيقة .
هز الطفل قدمه مستثقلا إياها ، ورفس الهواء بقوة ، فمال الرجل مكررا : " إنجغه " .
دفع الثمن ، وحاسب على الليمون ثم طلب منى أن أزوره فى دكانه ليقدم لى حاجة حلوة ، وقبل أن أحصل منه على العنوان ، مال على زوجته ، وقبلها فوق خدها قبلة امتنان ، وخرجا لايلويان على شىء .
استراحت نفسى فقد ذهبوا قبل أن يطب الحاج ، ويصرخ فى وجهى ، لكن فى كل مرة لاتسلم الجرة ، لأنه وصل ، ورأى كوب الليمون، وقد صنع دائرة على المكتب وقف عليها الذباب .

............... ............... ............... ............
* من مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان " صندل أحمر " .



 توقيع : سمير الفيل

سمير الفيل
قاص وروائي مصري


مدونتي : http://samir-feel.maktoobblog.com/?all=1

رد مع اقتباس