12-01-2008, 04:09 PM
|
|
الحُبّ.. والخَوْف.. وأشياء أُخرَى..!! • هوامش (1) الحُبِّ.. والخَوْفِ.. وأشْيَاء أخرى..!! إبراهيم سعد الدين يقولون إنّ القُوّتيْن المُحرّكتين للحياة هما الحُبّ والكراهية. وأنا أضيفُ إلى ذلك قولي إنّ الخوف هو ثالثُ ثلاث قوى مُحرّكة للوجود. ذلك أنّ الحُبَّ والكراهية لَيْسَا على طَرَفَيْ نقيضْ بل هما وجهانِ متقابلانِ لشعورٍ إيجابيٍّ وفَعّال، أمّا الخوف فهو القُطب السّالب للحياة. حين نُحبُّ أو نكره نشعرُ بماءِ الحياةِ وعنفوانها يسري في عروقنا حارّاً مُلْهِباً، يُرهِفُ حواسَّنا ويُشعِلُ جذوة خيالنا ويُلهمِنا القُدرةَ على الفِعْل. وحين يستوطنُ الخوف قلوبنا ننكمشُ ونصغُرُ في عيوننا وتُصبحُ نفوسنا وَكراً للهواجس والكوابيس والرؤى القاتمة. الحُبُّ والكراهية كلاهما يُشعلان جذوةَ الخَلقِ والإبداعْ، أمّا الخوفُ فهو بَرْدٌ ووحْشَةٌ وانطفاءْ. في الحُبّ نشعر بالاكتفاءِ والإشباعِ والتَّحقّق، بينما الخوف خواءٌ وجوعٌ أبديّ؛ جوعٌ إلى الأمن والطمأنينة والكرامة الإنسانية واحترام الذات. كثيراً ما راودني سؤال ساذج عن الحكمة وراء هذا الرّكض اللاهث خلف المال، نمتلك الألْفَ فتبدأ مسيرةُ المليون ثمّ المليار ثُمَّ... وكُلّما تضخّمت ثرواتنا تسارعت وتيرة الاندفاعِ المحْموم دون توقّف. كنت أتساءلُ دوماً: ألاَ يَكتفي هؤلاءِ ويشبعون أبداً..؟! ماذا يلزم الإنسان من كُلّ هذه الأموال المُكَدّسة..؟! وما سِرُّ هذا الجوعِ المُقيم والنَّهَمِ الدّائمِ إلى الثروة..؟! أهي شهوةٌ لا تعرفُ الشّبعَ والارتواءَ أبداً..؟! كذلك شهوة السّلطة. لطالما تساءلتُ ـ بيني وبين نفسي ـ أيُّ شيءٍ يُبَرِّرُ كُلّ هذا القَمعِ الدَّمويّ للاحتفاظِ بمقاليدِ الحُكم ..؟! ما الذي يُبَرّرُ للأبِ أن يَقتلَ فلذةَ كبده وللإبنِ أن يسفكَ دمَ أبيه وأخيه وذوي القُربى ليبقى جالساً على كُرسيّ السُّلطة..؟! أيُّ ذريعةٍ تُسَوِّغُ للحاكمِ أن يمارسَ كُلّ هذا العُنفِ من قَتلٍ واغتيالٍ وسِجنٍ ومطاردةٍ وتعذيبٍ وَحشيٍّ ضدّ خصومه أو من يُشتبه في عدم ولائهم له..؟!. في يقيني إنه الخوف، ذلك السّرطان الخبيث الذي يمسخُ الإنسانَ ويشَوّه فطرته التي خلقه الله عليها، فيُميتُ فيه منابت الحِسِّ ويُحيله وحشاً كاسراً تُحرّكه الغريزة ويدفعه الجوع؛ الجوع للمال والسُّلطةِ وغيرها من شهواتِ الدُّنيا. ليْتنا نُعيدُ قراءة التاريخ ونُمعنُ النظرَ في نفوسِ الجبابرةِ والطُّغاةِ الذين ولغوا في دَمِ البشريّة ونشروا الرُّعبَ والدَّمار في ربوعها، ليْتنا نُراجعَ سِيرَ حياتهم ونخُضعها للبحثِ والتحليلِ الرّصينِ والمُحايد لنرى أيَّ جُبْنٍ وتعاسةٍ وضَعفٍ وخور انطوتْ عليه نفوسهم فوجدوا ملاذهم في السُّلطة أو المالِ أو فيهما معاً. هل هو من قبيل المصادفة أنّ كُلَّ الامبراطوريّاتِ والممالك التي شُيّدَت على الخوفِ والاسْتبدادِ والسُّخْرة قد تهاوَتْ وانهَارَتْ أمامَ إرادةِ الإنسان وحركة التاريخ..؟!
هل هي محضُ مصادفةٍ أنّ كُلّ القلاعِ والحصونِ التي بناها الطُّغاةُ ـ في كُلّ زمانٍ ومكان ـ لتقيهم غضبة المقهورين قد أصبحت أثراً بعد عَيْن وشاهداً على أنَّ الطُّغيانَ مهما تحصّنَ خلفَ متاريسه فمصيره إلى زوال، لأنه نبْتٌ غريبٌ في أرضِ الخوفِ القاحلةِ الجرداء..؟!
من الكُتَّاب والروائيين الذين شغلهم هاجس الخوف الإنسانيّ وبَسَط ظلَّه على أعمالهم الأدبية فرانز كافكا خاصّةً في رواياته الشهيرة (المحاكمة) و (القلعة) و (بنات آوى وعرب) و (التّحوّل). لكن قصته القصيرة (الجُحْر) تبقى ـ بِحَقّ ـ إحدى فرائد عِقْدِه في تجسيد دراما الخوف وإن اعتمدت الرّمز أداةً للتعبير. تحكي القصة عن جرْذٍ يشعر بضآلته وبأنه مُحاطٌ بالأخطار من كل صوب فيفكر في بناءِ جُحْرٍ يلوذُ به من مخاطر العالم المحيط به. وبالفعل يشرعُ في تشييدِ جُحْره مُتَفَنِّناً في توفير كُلّ شروط الحماية واحتياطات الأمن. وحين يأوي إلى الجُحْرِ مُنعزلاً عن العالم تنتابه الهواجسُ من جديد وتتجسّدُ كل الأصواتِ التي تتناهى إلى سمعه صوراً مُخيفةً مُفزعة ونُذُراً بهجومٍ وشيك على الجُحْر فيشرعُ ـ كُلَّما أحسَّ بخطر ـ في تحصينِ جُحْره وإضافةِ شيءٍ جديد يكفلُ له الحماية. حتى يكتشفَ في النهاية أنّ الجُحْرََ لم يوفّرْ له أيّ إحساسٍ بالأمن بل تحوّلَ إلى سِجْنٍ ضاعفَ من تجسيمِ صورة الخطرِ في مُخَيّلته وألقى على كاهله عبئاً آخر هو حراسة الجُحْر ذاته وتوفير الحماية له.
أمّا رواية جورج أورويل (1984) التي كتبها عام 1948 وأرادها نبوءةً لما يكون عليه العالم ـ متخذاً من بريطانيا نموذجاً له ـ عام 1984، فهي تبقى الأكثر عمقاً وإبداعاً في تجسيد دراما العنف والقهر الإنسانيّ في ظلّ حُكمِ الأنظمةِ الشمولية. المشهد الأكثر دلالةً وتأثيراً في الرواية هو مشهد الحبيبيْن اللَّذَيْن انهارتْ مقاومتهما تحت نَيْرِ التعذيبِ الوحشيّ وهما رَهْنَ الاعتقال فاعترفَ كُلٌّ منهما على الآخر. يلتقيان بعد خروجهما من السّجن وقد تشوّه كُلُّ شيء في داخلهما فيرى أحدهما الآخر بعيونٍ أخرى؛ عيون المُذْنَبِ والضَّحيّة في آنٍ واحد. لقد مات الحُبُّ الذي كانا يظُنّان أنه لا شيء في العالم قادرٌ على قهره. فالحُبُّ والخوف لا يجتمعانِ في قَلْبٍ واحدْ. |