عرض مشاركة واحدة
#1 (permalink)  
قديم 02-12-2007, 04:56 PM
محمد
ابو رنيم
إدارة الموقعـ
محمد غير متواجد حالياً
Saudi Arabia     Male
SMS ~ [ + ]
هـــــــــــلا وغـــــــــلا


قدمت أهلاً ووطأت سهلاً نرحب بكم بباقة زهور

يسعدني أن أرحب بكم أجمل ترحيب

متمنياً لكم طيب الإقامة مع المتعة والفائدة

وننتظر منكم الجديد والمفيد


اخوكم محمد
لوني المفضل Blue
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل : 17-11-2006
 فترة الأقامة : 6614 يوم
 أخر زيارة : 25-10-2019 (11:21 PM)
 الإقامة : رويضة الاحباب
 المشاركات : 1,885 [ + ]
 التقييم : 176397
 معدل التقييم : محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي محمد عضو الماسي
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي قصة: مَطَر صَيْفي





مَطَـر صَيْفــيّ
قصة: إبراهيـم سعد الدين


كاتْشِيا لمْ تَكن حلماً . كانت هاجساً، حدساً، نبوءة.. ربما، لكنها تَجسَّدَتْ أمام عَيْنَيَّ امْرأةً من لَحْمٍ ودَم، لا يكاد يميزها عن بنات جنسها شيء؛ ذات الوجه السيامي بسمرته الناعمة وخديه البارزين، والعينين الضيقتين والأنف الأفطس، والشعر الأسود الفاحم المُنْسَدِل على جبهتها في استدارة لطيفة. كانت خلف الواجهة الزجاجية مُنْكَبَّةً على مجموعة من الأوراق، وهي توجه إليَّ السؤال تلو السؤال وتُدوِّن ما أمليه عليها دون أن ترفع عينيها. وحين فرغت أخيراً استدارت بجسدها نصف استدارة، وتناولت المفتاح المعلق على لوحة الأرقام خلفها، ونهضت لتريني الغرفة. في المصعد كان بوسعي أن أتأمل وجهها عن كثب. قدرتُ عمرها ببدايات العقد الثالث، وبدا قوامها أميل إلى النحافة والقصر، بَيْدَ أنه متسق في جملته وتفاصيله، كأنه عبارة موجزة مفعمة بالإيحاء والدلالة. كانت تتزيا بقميص من الموسلين الأبيض موشى بنقوش صفراء، فوق تَنُّورَة رمادية قصيرة مشقوقة من الخلف تكشف عن ساقين بديعتين تنحدران في ملاسة ونعومة. راحت ترصد موجودات الغرفة، وتتلوها علي بصوت هامس لكنه واضح النبرات، دون أن تنظر إليّ، وحين فرغت سألتني إن كان ثمة شيء آخر يلزمني، فأجبت بالنفي، وسألتها عن اسمها. قالت: كَاتْشِيَا.
وأرْدَفَتْ بالإنجليزية ـ التي تنطقها بلكنتها الخاصة ـ وشبح ابتسامة يلوح على شفتيها المكتنزتين:
ـ يمكنك أن تدعوني كاتشيا.
والتمعت عيناها بألق خاطف سُرْعَان ما توارى خلف أهدابها السوداء. كنتُ مُتعباً من عناء السفر الطويل فَصَرَفْتُها مُسْلماً جسدي إلى سُباتِ عميق أفَقْتُ منه على رنين الهاتف. كان صوتها ينساب عبر الهاتف بألفة محببة. قالت بلهجة أقرب إلى التقرير منها إلى الاستفسار: نَائِمْ..؟!
سألتها ـ وخدر النعاس ما يزال في رأسي ـ إن كان ثمة شيء، وأنا أُقَلِّبُ كافَّةَ الاحتمالات في مدينة لا أعرف فيها أحداً ولا أحد فيها يعرفني. أجابت ضاحكة وهي تروغ من سؤالي: قطعت عليك حلمك..؟!
وقعت على عبارتها موقع الدهشة. كنت أحلم بالفعل. سألتها مأخوذاً بنزق الحوار وفضول المباغتة:
ـ وكيف عرفت..؟!
قالت بيقين بدا لي غريباً:
ـ هذه مدينة الحلم.
وأرْدَفَتْ بعد فترةِ صمتٍ وجيزة بَدَتْ كفاصلةٍ بين جُمْلتَيْن:
ـ قُصَّ عليَّ حُلمك.
قلتُ لها وأنا أستجمعُ شتاتَ ذاكرتي:
ـ كانت ثمة جزيرة نائية وبحر متلاطم الأمواج، وكنت عند الجرف...
ثم ابتلعت ريقي وأنا أستطرد في سرد وقائع الحلم:
ـ كان هناك شبح امرأةٍ عارية عند حَافَّةِ الجُرْفِ، جَسَدُها الشَّمْعِيُّ تكسوه غلالة رهيفة تتطاير أطرافُها مع الرِّيح ....
قالتْ تَسْتَعْجِلُني: وبَعْد..؟!
رُحْتُ أُلَمْلِمُ شَذراتِ الحُلْم:
ـ .. مَدَّت إليَّ يدها وأمْسَكَتْ بيدي، وراحت تأخذني معها في رفق ونعومة صوب الماء...
قالتْ:.... وبَعْد..؟!
قلت لها: ليسَ هناك بَعْد.. صحوتُ على صوت الهاتف.
قالت ضاحكة كأنها أفاقت من غفوةِ وَسَنٍ خفيفة: ما أغباني.. لَيْتني ترَيَّثْتُ قليلاً.. لابد أني قَطَعْتُ عليكَ حلمك الجميل.
أجَبْتُها ضاحكاً وقد زايلني تماماً أثر النعاس:
ـ كان مَحْضُ حُلم على أية حال.
وعدتُ أسألها إن كان ثمّة شيء.
تردَّدَتْ قليلاً قبل أن تُجيب: لا .. ليس هناك شيء.
وأرْدَفَتْ بعد تَوَقُّفٍ قصير:
ـ هل ترغب في رؤية المدينة..؟ هذا هو يومي الأخير هنا.. ما رأيك..؟!
قلت وكأني مَسُوقٌ بِوَحْيِ هاتفٍ يتجاوبُ صَداه في داخلي:
ـ لا بأس.
قالت:
ـ أمامك ساعة واحدة.. بعدها ننصرف سَوِيَّة.
في الطريق إلى الشارع الرئيسي سألتها إن كان هذا هو يومها الأخير حقاً، فأوْمَأت برأسِهَا علامةَ الإيجابْ. هذا الزّحامُ المَقيتْ!! قالت وهي تغالب بصوتها جلبة الشارعِ الغاصِّ بحركة الأحياء وصخب المارَّةِ وضجيجِ العرباتِ المسرعة في سَيْلٍ دافقٍ لا تبدو له نهاية. وأرْدَفَتْ وهي تأخذني من يدي وتعبر بي الشارع في عَدْوٍ متلاحق:
ـ أسْرِعْ.. سوف نستقلُّ العربة من الجانب الآخر.
كانت ثمَّة عربة مكشوفة يجرُّها زَوْجٌ من الجيادِ وحُوذيٌّ عجوز له ملامحُ أهْلِ المدينة؛ سَألَنا عن وِجْهَتِنا فأجابَتْه هي بنفس لُغته. ظلَّتْ مُمْسِكةً بيدي بين يَديْها الصغيرتين والعربة تَشُقُّ بنا الطَّريقَ وسط هديرِ السيارات وجَمْعِ البَشرِ المُتَكَاثف من كُلِّ صَوْب. راحَتْ تُشير بيدها وهي تشرح لي معالمَ المدينة التي بَدَتْ وكأنَّها عُلْبَةٌ كبيرة من عُلَبِ اللَّيل. نحنُ الآن في سكوموفيت.. هذا طريق رامافور.. وهذا سوليم روود.. هذه سيام جاردن.. وهذا نيوبيبوري روود.. وهذا .. كنت مستغرقاً أتأمَّلُ سَيْلَ المَارَّةِ الذين بدوا خليطاً من شَتَّى الأجناسِ، وأطالعُ البِناياتِ الشَّاهقةَ المُصْطَفَّةَ على الجانِبَيْن، والأضواءَ الحمراءَ التي تتلألأُ على واجهاتِ الحاناتِ اللَّيْلِيَّة، وأجسادَ النِّسْوة شِبْه العارية عند مداخل الحانات كأنَّها دُمَى مُلَطَّخةٌ بالأصباغِ أو قُطْعانٍ من القِرَدَةِ اصْطفَّتْ في اسْتجْداءٍ صارخ للغَرَائزْ. قالتْ وهي تضغط على يَدِي المُسْتَكِنَّةِ بين راحَتَيْها: هذه المدينةُ مَاخورُ العَالمْ.. ما أبْشَعهَا!!. وتَوجَّهَتْ بالحديثِ إلى الحُوذِيِّ الذي أصاخَ السَّمْعَ لحظةً ثم عَرَّجَ على طريقٍ جَانِبيٍّ ضَيِّق، وألْهَبَ ظَهْرَي الجَوَادَيْنِ مُحْدِثاً بِسَوْطِه فَرْقَعاتٍ حَادَّة في الهواءْ. كانَ الجَوُّ خَانِقَ الحرارةِ مُشَبَّعاً بالرُّطوبةِ وروائحِ الشُّوَاءِ المُنْبَعثةِ من الحوانيتِ وعرَبَاتِ الطعام المُتناثرة على جَانِبَي الطريق، بينما راحت قطراتُ مَطَرٍ خَفيفٍ تتساقَطُ فوقَ رأسَيْنا. قَالَتْ: حَدِّثْني عن مَوْطِنكْ. وأسندت رأسها على صدري. قلت لها وأنا راغب عن الحديث: صيفنا قائظ ليس فيه حبة مطر. ومسحت بباطن يدي على رأسها المُبْتَلَّة. كان وَقْعُ حوافر الجياد فوق الأرض المُنَدَّاة يَتَوَاتَرُ على سمعي، والعربة تمضي بنا في دروب ضيقة متشابهة شبه خالية من المارَّة، يُسْلِمُنا الواحد منها إلى الآخر، أفضت بنا في النهاية إلى خلاء شاسع تلفه الظلمة والسكون يتوسَّطه طريقٌ تُرابيٌّ مهجور، تحفه من الجانبين شجيرات استوائية ذات أوراق عريضة خضراء داكنة الخضرة. كُنَّا قد خَلَّفْنَا المدينة وراءنا ولم يعد ثَمَّة غير الحقول المترامية على جانبي الطريق، وكانت حرارة الجو قد خَفَّتْ وبدأت نسمات من الهواء الطلق محملة بعبق الحقول ورائحة المطر تهب على وجهينا. أطلقت تنهيدة عميقة ورأسها غاف على صدري، وبدا صوتها متغيراً وهي تخاطب الحوذي الذي انحرف يسرة مع انحناءة الطريق، ومضت بنا العربة بمحاذاة نهير صغير ممتلئ حتّى منتصفه بمياه عَكِرَةٍ قليلة العمق بدت بلونها الضارب إلى السمرة وتموُّجاتها الخفيفة كأنها سبيكةٌ من رَصَاصْ. حين صِرْنا على مقربةٍ من جسرٍ خشبي يصلُ ما بين ضِفَّتَي النهر أشارت له أن يتوقف. كان ثمة كوخ خشبي بسقف مخروطي الشكل له هيئة المعابد البوذية منتصباً قبالة رأس الجسر على الضفة الأخرى من النهر. ترجَّلْنا معاً وعبرنا الجسر مُعْتَنِقَي اليدين صوب المعبد الذي بدا في تفرُّده وسط الظلمة كأنه رأس غريق ابتلعته لُجَّةُ بحر شاسع، أو مُصْحَرٌ تقطعت به السبل في صحراء لا تخوم لها. كان المطر ما يزال يتساقط فوق رأسينا. نَقَرَتْ كاتشيا بأطراف أصابعها نقرات خفيفة ذات إيقاع متواتر على الباب، ومضت لحظات خلتها طويلة قبل أن يَنْشَقَّ فراغ الباب عن وجه صبية صغيرة لها وجه شاحب وعينان ضيقتان وشعر ناعم خفيف. تَهَلَّلَ وجه الصبية وهي تضم راحتيها وتنحني أمامنا لتؤدي تحية أهل البلاد. ثم ألقت بنفسها بين ذِرَاعَيْ كَاتْشِيَا في عناق حميم. قبل أن أدْلفَ إلى جوفِ المعبد لاحتْ منِّي التفاتةٌ إلى الجسر فألفيتُ العربة ما تزال هناك تراوح مكانها وسط الظلمة. في صدر المعبد كان ثمة ضوء شحيح ينبعث من مصباح نفطي يتدلي من السقف، وأسفل المصباح كرسي ضخم من الخشب الصقيل أشبه بالهيكل نُقِشَتْ على مسنده وذراعيه رسوم مذهبة لطيور وكائنات غريبة يقبع في فراغه شيخ عجوز طاعن في السن، له شارب خفيف ولحية بيضاء مدببة فوق بشرة رهيفة في لون الجلد المدبوغ. كانت أمامه شمعة وحيدة ترسل ضوءاً معتماً من ذؤابتها المرتعشة، وإلى جوارها مبخرة يتصاعد منها دخان له رائحة عبقة نفاذة. وراء الشيخ ـ منتحياً جهة اليسار قليلاً حيث ينبسط ظل المصباح ـ كان بوذا متربعاً في جلسته المعهودة؛ وجهه مسكون بذلك الصمت السرمدي، ومن قاع عينيه الغافيتين تنبعث نظرة غائمة مُسْتَكِنَّة، مفعمة ببُحْرَان النشوة. تَلقَّانا الشيخ بوجه هضيم معروق وعينين كابيتين ثابتتين في محجريهما كأنهما كُرَيَّتَان من زجاج. تقدمت كاتشيبا في خشوع طقسي صوب الشيخ ثم جثت على ركبتيها وأحْنَتْ رأسها حتى لامست الأرض عند موطئ قدميه وهو يتمتم بصوت واهن لا يكاد يبين، وفمه الأدْرَد يتحرك ببطء كأنه يلوك مُضْغَةً من الكلمات المُدْغَمَة، وحين فرغَ مَدَّ يداً نحيلة مرتجفة وراح يربتُ على مؤخِّرِ رأسها، فنهضَتْ وأشارت إليَّ إشارة مبهمة حَدَسْتُ فحواها ففعلتُ مثلما فَعَلَتْ، وانْتَصَبْتُ واقفاً ورائحة البخور تتسلَّلُ إلى رئتي ثقيلة مخدرة.
أشار الشيخ بيده إلى الصبية التي كانت تقف خلفنا صامتة فجاءت وتناولت الشمعة، وأومأت لي برأسها فتبعتُها بجسدٍ يُثْقله الخَدَر. كانت تسير بخطى وئيدة َّ عبر رواق المعبد، حتى صرنا على رأس درج واطئٍ يفضي إلى باب غرفة وحيدة. أخرجت الصبية من طوقها مفتاحاً معقوداً بخيط ثخين وفتحت الباب، فلامست وجهي نسمة من هواء بارد رطب مشبع برائحة الخلاء الفسيح. كان للغرفة صَمْتُ المهاجع وعُزْلَتُها الساكنة، بيد أن دفق الهواء المتقاطر عبر خُصاصِ النافذة كان يضفي على المكان ألفة وأمناً، كأنه أنفاس كينونة حية في كوكب غير مأهول. أسفل النافذة كان ثمة مخدع من خشب قهوائيٍّ ضاربٍ إلى الحُمْرَة، يعلوه فراش مَكْسُوٌّ بشراشفَ برتقالية اللون محلاة بنقوش صفراء. وفي الرُّكْنِ القَصِيِّ من الغرفة عند رأس المخدع منضدة تعلوها آنية من فخار يتوهج فيها جمر قليل. أخرجت الصبية من جيبها لفافة معقودة فضتها في تؤدة، وتناولت منها حفنة ألقت بها وسط الجمر، فتصاعدت سحابات من الدخان لها ذات الرائحة العبقة، ثم ثبتت الشمعة فوق المنضدة، ورمقتني بنظرة طويلة مستغرقة قبل أن تنسل خارجة في صمت، وكأنها فرغت لتوها من أداء شعيرة مقدسة.
حين جاءت كاتشيا كانت عارية إلاَّ من غلالة رهيفة، تشفُّ عن جسدٍ عُذْرِيٍّ بدا في نعومته وغناه أشبه بجسد حوريَّةٍ خرجت لِتَوِّها من الماء. نَضتْ عنها غلالتها وقالت وهي تلقي بجسدها على الفراش: هذا سريرنا الملكي.
كان صوت المطر المنهمر على خشب النافذة ومياه النهر يأتيني من الخارج في خفوتٍ مُتناغم، ورائحةُ البخور تعبقُ صَدْري بخدرٍ ناعم يتمشَّى في أوصالي، وهي إلى جواري أندَلسٌ خِصْب؛ مَرْجٌ دائمُ الخضرة ترفُّ عليه الفراشات، تتقافز الأيائل والظبيان، وتَنْبَجِسُ منه عيون الماءْ. ونحن على حَافَّةِ الجُرْفِ سألتُها بصوتٍ مَبْهور: مَنْ أنتِ..؟!
قالت: سَيِّدةُ الحُلْم.. تَذَّكَّرْ..؟!.
وأرْدَفتْ وأمواج البحر تتلاطم من حولنا فيغمرُ زبَدُها الفَوَّارُ عُرْيَ جَسَدَيْنا المسْكونَيْن بأُوَارِ الشَّوْقِ ونزيزِ الرغبة: ظلَلْتُ طيلة عُمْري أحْلُمُ بكَ.. ذات الحُلْم.. تَذَّكَّرْ..؟!
وتَنَهَّدَتْ بحُرْقَةٍ وهي تأخذني معها إلى أغوارٍ سحيقة لا قرارَ لها:.. فلمَّا أتَيْتَ كان الحُلْمُ بيننا هو الإشارة..
حين انْحَسَرَ المَدُّ وآبَ كُلُّ شيءٍ إلى السكونِ دَفَنْتُ رأسي في عُرْيِ جَسَدِها البِكْرِ الذي لمْ يَمْسَسْه بَشَرٌ من قبل، قلت لها بصوت دَمِثِ الحَشْوِ، مليءٍ بالشَّبَع والطمأنينة: هل نرجع..؟!
قالت بصوت يخالطه خدر النوم:
ـ ترجع وحدك.. إلى مدينة الأموات.
وأرْدَفَتْ: كان ذاك يومي الأخير هناك.. تَذَّكَّرْ..؟!
سألتُها بصوتٍ ضارع: ومتى ألقاكِ..؟!
قالت: اكْتَمَلَ الحُلْم.
ضَمَمْتُها إليَّ في سُعَارٍ وأنا أُحِسُّها تتسرَّبُ من بين أصابعي كحبَّات الماء: كاتشيا.
قالت وصوتها يتلاشَى رُويداً كأنه ذبالة شمعة تنصهرُ فى عتمة الليل وتذوب: فَتِّشْ عَنِّي هناك.. في عُلَب الليل.
وأخْلَدَتْ إلى النوم.

حين صَحَوْتُ وجَدْتُني وحيداً في غرفة الفندق. كان كُلُّ شيء في موضعه، وشمس الظهيرة تتسلَّلُ حارقةً عبر زجاج النافذة، ولم يكن ثمة أثر للمطر. ارتديْتُ ملابسي على عجل وهبطتُ إلى الطابق الأرضي. كانت ثمة امرأة عجوز مُنْكَبَّة على عملها في دأب خلف الواجهة الزجاجية. سألتُها عن كاتشيا.
قالت دون أن ترفع عينيها: أية كاتشيا..؟!
قلت لها: كانت هنا البارحة.
ورُحْتُ أصِفُ لها ملامحها كما وَقَرَتْ في ذاكرتي. رَفَعَتْ إليَّ وجهاً مليئاً بالنّدوبِ والتَّغَضُّنات، وقالت بصوتٍ لم يَخْلُ من سخرية وهي تعبث بشعرها الأشيب: كاتشيا اسم شائع هنا.. شيوع الماء والهواء!!.
ثم الْتَمَعَتْ عيناها فجأة كأنها تذكَّرَتْ أمراً: أووه.. لعلَّكَ تقصد أُويَا.. أُويَا.
قلتُ لها بنفاذ صبر: حسناً. لِتَكُنْ أُويَا.. كما تشائين.
قالت بصوتٍ قليل التأثر وهي تعود إلى عملها: مسكينة تلك الفتاة.. أتانا هذا الصباح نبأ موتها.
قلت لها بصوتٍ صارخٍ مُلْتَاثٍ وأصابعي مُتَصلِّبةٌ على رُسغِها: كَيْف..؟!
قالتْ: مثلما يموت كل البشر..
صرخت بها ثانية وأنا أتشبث بالكلمة في تداعٍ يائس: كيف..؟!
قالت بصوتٍ مُخْتَنِقٍ وهي تُخلِّصُ ذراعها من بين أصابعي: أيها السَّيِّدْ.. إنَّكَ تؤلمني.
خَرَجْتُ إلى الشارع أضْربُ على غير هُدى. كانت زحمةُ المدينةِ المنهمرة تتردَّد أصداؤها في رأسي المتعب، وأضواء اللافتات الحمراء تتوهجُ على واجهات الحانات الليلية؛ تَتَحلَّقُني من كُلِّ صَوْب، وملامحُ المدينةِ الصَّاخبة تتداخل وتشتبكُ في تَمَازُجٍ مَحْموم، ثم تعود تَتَشَكَّلُ في وجه امرأةٍ لم أعُدْ واثقاً إن كانت قد وُجِدَتْ قَطّ.




رد مع اقتباس