02-08-2007, 05:16 PM
|
|
التــزحيــــــف التــزحيــــــف
نحن في الأساس . والأساس 45 يوماً ، لا تزيد ولا تنقص . تستلم مهماتك ، تحمل المخلة ، تتحول من فرد مدني عادي ، إلى عسكري لا يتحرك إلا بالأوامر .
والجيش متاهة . الداخل فيها مفقود ، والخارج مولود . من كل جنس ولون ، وهيئة وشكل ستجد البشر : حانقين ، سعداء ، ممرورين ، لاهين ، عدميين ، متفائلين . من النقيض إلى النقيض . لكن الزمن ممتلئ بأمثال هؤلاء وهؤلاء . كل شيء كان يتوقعه خليفة مرسي الشموطي إلا موضوع التزحيف .
لقد بحث له عن سبب أو علة دون أي فائدة . فما الدافع الذي يجعل عساكر الأساس يقومون من النجمة ، وقبل شروق الشمس ، ليغسلوا وجوههم بما تيسر من ماء الجراكن ، قبل أن يخرجوا مشمعاتهم المتينة ، بلونها البني الغامق ، وتيلها المنسوج راقات ، يثبتون الطرف بقطع الزلط والحجارة ، ثم يمسكون الطرف الآخر ، ويمضون لتسوية أرض الميدان الواسع الذي لا نهاية له .من مربط خيام الأفراد ، وحتى السور البعيد البعيد الذي تعرفه الكلاب ، فلا تتجاوزه إلا بنباحها الواهن .
هناك عدة طرق للتزحيف ، أبسطها أن يُحدد لكل فرد مقطوعية يسويها بمعرفته ، ويتحمل خطأ وجود أي مساحة فيها نتوءات أو تعريجات . هذا هو الشائع والمعمول يه في أساس 2 ، 4 .
لكن هناك معسكرات تدريب أخرى تأخذ بنظرية " الجشتالت " فتقوم كل سرية بالتزحيف الجماعي ، فكأنك في حضرة رتل من سيارات الميدان تمضي في ذات الاتجاه ، وبنفس السرعة ، دون أن تترك بوصة فراغ واحدة .
كل شيء مقبول ، ومعقول ، ومحسوب في ذهن خليفة إلا هذا الأمر ، وهو يسأل كل من يقابله في صوت هامس خشية التبليغ عنه من أي واحد ابن حرام : أريد أن أعرف ضرورة التزحيف ؟
ظل يسأل ، ولا أحد منا يجاوبه ، ويضع له العقل في رأسه .فليس من المعقول أن نسأل في كل كبيرة وصغيرة . هناك في العسكرية تكتيكات واستراتيجيات ، وما نحن إلا عساكر بلا ظهر أو سند . بل الغريب أن يصدر مثل هذا السؤال عن خليفة بالذات ، وأبوه كما علمنا منه يُصلح الأحذية عند أبواب جامع السيد البدوي . يضع السندان على الأرض ويبدأ عمله قبل الظهيرة كل يوم وحتى يشطب آخر فردتين ، وكله برزقه .
مرسي الأب – والله أعلم – عوّد ابنه على التلصص على الحديث ، والسؤال عن كل أمر ، من طقطق إلى السلام عليكم .
ربما كان لحوحاً في مسألة التزحيف ، أما أن يحولها إلى قضية عمره ، فهذا معناه أن دماغه
" جزمة " قديمة .
وهذا ما حدث له من جراء اللت والعجن في موضوع مفروغ منه . فقد حوله الأومباشى إلى الصول ، لما سأله الصول عن السبب . أشار الخبيث إلى العسكري المستجد الذي لم يكن له خبرة بأمور الدهاء : أسأل عن التزحيف . لماذا نقوم به ؟
والصول عرفة أبو غزالة الداهية وجدها فرصة للتنكيل بنا جميعاً ، بأن يوقع الأذية بهذا الأبله ابن " الصرماتي " .
والمثل قال : " اضرب المربوط ، يخاف السايب " . ولكن للأسف كلنا مربوطون من أعناقنا منذ اليوم الذي دخلنا فيه منطقة الفرز ، وجردونا من الثياب إلا ما يستر العورة ، وبحثوا عن الفتق والبواسير والسل و . . . . . . . .
عندما انتهوا ، وختموا الورق بالكودي الأسود بكلمة " صاغ " صرنا لا نسأل ، ولا نجرؤ على رفع الحنجرة بصوت حتى لو كان واهناً .
الضابط أنور – وهو ضابط مخلة ، لا قلب له – ربت على كتف العسكري الغلبان ، وسهاه في الكلام : خير يا دفعة ؟ ، ابتسم الغر ، وبانت نواجذه : فقط ، أسأل عن التزحيف . هل كل جيوش العالم تزحف مثلنا؟
الضابط أنور ، تركه ، وراح يقلب السكر في قعر كوب الشاي ، وعاد إلى مكتبه في وسط الخيمة ، وقد أدرك أن الفأر قد وقع في المصيدة . شجعه على الكلام أكثر ، فأضاف ابن مرسي الشموطي : التزحيف تضييع وقت . أريد أن يصل صوتي للقيادة .
لسان حال الضابط : اللهم طولك يا روح .
لكنه يطلب المزيد من الكلام السائب ، ربت على كتفه بتشجيع ماكر :
قل كل ما عندك . . يا عسكري .
وضع الكوب على حافة المكتب – وهو منضدة ملخلعة قوائمها ، أما سطحها فمن خشب جميز مسوس – وسوى أطراف شاربه ، وأمر بطابور ذنب 8 ، 9 .
وقبل أن ينصرف ، وخزه في صدره : ها . . أتريد أن تعدل الكون . . يا روح أمك !
ربما فكر في صفعه ، لكنه تراجع ، وقرر حرمانه من الإجازة الشهرية ، وخدمتين " كينجي " زيادة .
وحين رجع العسكري خليفة ، بان عليه الإرهاق بعد دورانه في ساحة التدريب حاملاً المخلاة ، والعرق يشر منه ، وهو يلهث وصوته يطلع بصعوبة : لن يقنعني أحد بأن التزحيف ضروري ، حتى لو قصفوا عمري .
وفي الخيط الأول من فجر اليوم التالي ، كنا نزّحف رمال الموقع بهمة أقل ، وكان العسكري خليفة يشاركنا الأمر متعباً ، موجوع القلب ، فقد قضى نوبة الكينجي وهو يكلم نفسه : التزحيف خطأ .
كان أغلبنا يرى الأمر نفسه ، ولم يكن أحدنا على استعداد لذلك العقاب الصارم ، فالجيش له عبرة حفظناها مراراً وتكراراً : " نفذ الأمر ولو خطأ " .
ولقد رأينا مصير من جرؤ على مناقشة الأمر ، فما بالك لو رفضه .
استمر التزحيف ، وحين سوينا الأرض ومهدناها ، هبت عاصفة صغيرة ، فمسحت كل ما فعلناه . ضحك العسكري خليفة وهو يشير إلينا بيده : زحف يا عسكري ولو خطأ . .
كانت ضحكته منقوعة بمرارة وحزن بلا حدود . |